منى ، فإن قلتم ذلك فقد ناقضتم قولكم بإبطال التعليم ، إذ أمرتم بالتعليم وجعلتم التعليم طريقا ، وهو مذهبنا ؛ إلا أنكم أبيتم لأنفسكم منصب التعليم ، ولم تستحيوا من خصمكم المعارض لكم المماثل فى عقله لعقلكم ، إن هذا المتعلم يقول : قد دعانى إلى التعلم منه خصمك ، وقد تحيرت فى تعيين المعلم أيضا ، وليس يدعى واحد منكم العصمة لنفسه ، ولا له معجزة تميزه ، ولا هو منفرد بأمر يفارق به غيره ؛ فلا أدرى : أتبع الفلسفى ، أو الأشعرى أو المعتزلى؟ وأقاويلهم متعارضة ، وعقولهم متماثلة ؛ ولست أجد فى نفسى الترجيح بطول اللحية وببياض الوجوه ؛ ولا أرى افتراقا إلا فيه إن اتفق ، فأما العقل والدعوى واغترار كل بنفسه فى أنه المحق وصاحبه المبطل كاغترار صاحبه ؛ فما أشد تناقض هذا الكلام عند من يعرفه!
(الدلالة الثالثة) قولهم : الوحدة دليل الحق ، والكثرة دليل الباطل. فإنا إذا قلنا : كم الخمسة مع الخمسة؟ فالحق واحد وهو أن يقال : عشرة ، والباطل كثير لا حصر له وهو كل ما سوى العشرة مما فوقها أو تحتها. والوحدة لازمة مذهب التعليم ، فإنه اجتمع ألف ألف على هذا الاعتقاد ، واتحدت كلمتهم ولم يتصور بينهم اختلاف. وأهل الرأى لا يزال الاختلاف والكثرة تلازمهم. فدل أن الحق فى الفرقة التى تلازم الوحدة كلمتها ؛ وعليه دل قوله تعالى : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢].
(الدلالة الرابعة) : قولهم : الناظر إن كان لا يدرك المماثلة بين نفسه وبين خصمه فيحسن الظن بنفسه ويسىء بخصمه ، فلا غرو فإن هذا الغرور مما يستولى على الخلق ، وهو شغفهم بآرائهم وجودة عقولهم ، وإن كان ذلك من أدلة الحماقة. وإنما العجب أنه لا يدرك المماثلة بين حالتيه ، وكم رأى نفسه فى حالة واحدة وقد تحولت حالته فاعتقد الشيء مدة وحكم بأنه الحق الّذي يوجبه العقل الصادق ، ثم يخطر له خاطر فيعتقد نقيضه ويزعم أنه الآن تنبه للحق ، وما كان يعتقد من قبل فخيال انخدع به ويرى نفسه على اعتقاد قاطع فى الحالة الثانية تساوى اعتقاده