وقد شبّهوا هاتين السلسلتين بقوسي الدائرة ؛ إشعارا بأن الحركة الثانية رجوعية انعطافية ، لا استقامية ، فالمتقدّمة منهما على الدنيا هي الجنة الّتي خرج عنها أبونا آدم وزوجه ، لخطيئتهما ، وهي موطن العهد ، ومنشأ أخذ الميثاق من الذرّية ، ومحل الملائكة المقرّبين ، والمدبّرين ، كلّا في مقامهم ، وهي المسماة على اختلاف نوعيها بالجبروت والملكوت ، وقد يسمّيان ، أو الأوّل منهما ، بعالم الأرواح ، والمتأخّرة منهما عن الدنيا هي الجنة الّتي وعد المتّقون ، والنار الّتي أعدّت للكافرين ، ومنشأ من صور الأعمال ، ونتيجة الأفعال السابقة في الدنيا ، وهي موطن السعداء ، ومقرّ الأشقياء ، وتسمى بدار الآخرة ، والأخرى ، والعقبى ، والجنة المأوى ، ولظى ، ودار الجزاء ، ودار القرار.
وقد تخصّص دار الجزاء بالملكوت ، ودار القرار بالجبروت ، والأربع تسمى باليمين ، كما تسمى الدنيا بالشمال ؛ لقوّتها وشرفها عليها ، وقد تسمى الأربع ، أو العقلية منها ، بعالم الأمر ، كما تسمى الدنيا بعالم الخلق ؛ لأنها وجدت بأمر كن ، بلا استعداد مادّة ، والدنيا متقدّرة بالمساحة ، فإنّ الخلق بمعنى التقدير.
وصل
كل واحدة من النشآت الثلاث كأنها حيوان واحد برأسها ، لها جهة وحدة وتمامية ، قال الله سبحانه : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ) (١) ، وقال : (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ)(٢).
__________________
(١) ـ سورة القمر ، الآية ٥٠.
(٢) ـ سورة العنكبوت ، الآية ٦٤.