وكذلك النار ناران : نار معقولة ، تطّلع على الأفئدة ، للمنافقين والمتكبّرين والمكذّبين.
ونار محسوسة تحرق الأبدان ، أعدّت للكافرين.
وكلتاهما إنّما تكونان في العالم المتوسّط ، إحداهما ـ وهي المعقولة ـ إنّما تنشأ فيه بتبعيّة عالم العقل ، بسبب فقدان معارفه ولذّاته ، بعد إدراكها ، والشوق إليها ، فإنّ العقل وإن لم يتألّم حيث لا حظّ له من الشقاء ، وليس من دار الشقاء ، إلّا من اشتاق إليه ، وحرم الوصول ، يسمى ألمه : ألما عقليا ، مشاكلة للذّة العقلية ، ومقابلة لها ؛ إذ الألم يرجع في الحقيقة إلى العدم ، كما دريت ، والعدم إنّما يعرف ويمتاز بالوجود.
والنار الأخرى ـ وهي المحسوسة ـ إنّما تنشأ بوسيلة هذه النشأة الدنياوية ، بسبب فقدان متاعها بعد حصول الإلف له ، والتعلّق به ، والإخلاد إليه ، وارتكاب الأعمال السيّئة ، والأخلاق الرديّة ، فإنّ النفس بسبب ذلك تنشىء في عالمها صورا مؤذية مناسبة لها ، من الحيّات والعقارب والسموم واليحموم ، وغيرها ، فتتأذّى بها ، ولا تقدر على عدم إنشائها ، كما أنها إذا أصابتها مصيبة في الدنيا فكلّما تخطر ببالها اغتمّت وتأذّت ، ولا يمكنها أن لا تخطرها ، ولكنها في الدنيا تغفل عنها أحيانا بسبب الشواغل ، بخلاف الآخرة فإنها لا تنفكّ عنها ؛ لعدم الشاغل ، وصفاء المحلّ ، وقوّته ، وصيرورة القوى كلّها قوّة واحدة ، كما بيّناه.