فصل
ولنذكر الآن جملة وجوه الفرق بين الدنيا والآخرة ، في نحو الوجود الجسماني :
فمنها : أن الدنيا لا بدّ وأن تفنى ؛ لأنها لم تخلق لذاتها ، بل لتكون وسيلة إلى تحصيل نشأة أخرى ، وتمتّعا لها ، وبلغة إليها ، فلا بد من انقطاعها ومصيرها إلى البوار ، والآخرة باقية أبدا ببقاء بارئها وقيّومها ؛ لأنها خلقت لذاتها ، لا لشيء آخر ، فهي محلّ الإقامة ودار القرار ، قال الله تعالى حكاية عن العبد الصالح الناصح لقومه : (إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ) (١).
ومنها : أن القوّة في الدنيا لأجل الفعل ، فتقدم عليه بوجه ، والفعل في الآخرة متقدّم على القوّة ، ولأجلها ، وأيضا الفعل أشرف من القوّة في الدنيا ، والقوّة في الآخرة أشرف من الفعل ؛ وذلك لأنّ معنى القوّة في الدنيا كون الشيء بحيث يكون من شأنه أن يصير شيئا آخر ، ومعناها في الآخرة كونه بحيث يكون من شأنه أن يفعل ويفيض.
ومنها : أن الأجساد الدنيوية قابلة لنفوسها على سبيل الاستعداد ، والنفوس الأخروية فاعلة لأجسادها على سبيل الاستيجاب والاستلزام ، فهاهنا مرتقى الأبدان بحسب تزايد استعداداتها إلى حدود النفوس ، وفي الآخرة يتنزل الأمر إلى النفوس فتنسج منها الأبدان.
ومنها : أنّ القوّة الخيالية في الدنيا غير الحواسّ الظاهرة ، وفي الآخرة
__________________
(١) ـ سورة غافر ، الآية ٣٩.