تصير عينها ، وتتّحد معها ، كما ظهر من التحقيقات السالفة ؛ ولهذا قيل : إنّ اللذّة الخيالية لا تكون في الجنة ؛ لأنها من قضيّات الوهم ؛ إذ من شأنه أن يتخيّل أشياء على طريق التمنّي فتلتذّ بها النفس ، والمنى رأس مال المفاليس. والآخرة دار الصدق ودار الحقائق ، ولذلك سمّيت الحاقّة ؛ لأنّ فيها حواقّ الأمور ، وليس فيها أباطيل وأكاذيب ، ولا أمنية ؛ إذ فيها ما تشتهي الأنفس ، وتلذّ الأعين ، نقدا (١) ، وإنما التذاذهم بالوجود المشاهد.
ومنها : أن الشهوات في الدنيا تابعة للمشتهيات ، والمشتهيات في الجنة تابعة للشهوات ، كما قال تعالى : (وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ) (٢) ، فما يريد يستحضر ، لا أنّه يكون موجودا ثمّ يستحضر ، بل يستحضر فيكون موجودا بالاستحضار ، فالحضور هناك ليس بقطع المسافة.
ومنها : أن باطن الإنسان يكون ثابتا في الآخرة ، فإنّه عين ظاهر صورته في الدنيا ، والتبدّل فيه خفي ، وهو خلقه الجديد في كلّ آن الّذي هم منه في لبس ، ويكون ظاهره فيها مثل باطنه في الدنيا ، فيتنوّع ظاهره هناك كما يتنوّع باطنه في الدنيا في الصور الّتي يكون فيها التجلّي الإلهي ينصبغ بها انصباغا.
ومنها : أن نيل الشهوات في الآخرة لم يمنع من التجلّي بخلافه في الدنيا.
قال في الفتوحات : وإنما لم يمنع نيل الشهوات في الآخرة ، وهي أعظم من شهوات الدنيا ، من التجلّي ؛ لأنّ التجلّي هنالك على الأبصار ، وليست الأبصار محلّ الشهوات ، والتجلّي هنا في الدنيا إنّما هو على البواطن دون الظواهر (٣) ،
__________________
(١) ـ هكذا في المخطوطة.
(٢) ـ سورة فصلت ، الآية ٣١.
(٣) ـ في المصدر : على البصائر والبواطن دون الظاهر.