والبواطن محلّ الشهوات ، ولا تجتمع الشهوة والتجلّي في محلّ واحد ، فلهذا جنح العارفون الزهّاد في هذه الدنيا إلى التقليل من نيل شهواتها ، والشغل بكسب حطامها (١).
ومنها : أنّ المادّة الحاملة للصور الدنيوية تحتاج إلى فاعل مباين يكملها على سبيل التربية ، شيئا فشيئا ؛ لأنها في عالم الحركات والاتفاقات كمحلّ السواد ـ مثلا ـ إذا زالت عنه صورة السواد يحتاج في استرجاعها إلى سبب جديد مباين عن ذاته ، وهذا بخلاف المادّة الحاملة للصور الأخروية ، فإنّها قوّة نفسانية مستكفية بذاتها ، وبأسبابها الذاتية ، فإذا زالت عنها الصور ففي استرجاعها يكفي تذكّرها من غير حاجة إلى تجشّم اكتساب من فاعل جديد (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) (٢).
ومنها : أنّ المادّة الأخروية أشرف صورة ، وأسرع قبولا للصور ، وأسهل انفعالا من الفاعل ؛ لأنها ألطف جوهرا ، وأشدّ قربا من الروحانية بالنسبة إلى المواد الدنيوية.
أو لا ترى إلى الماء لمّا كان جوهره ألطف من جوهر التراب كيف صار لقبول الطعوم والأصباغ والأشكال أسرع ، والهواء لكونه ألطف منهما كيف يقبل الأصوات والروائح والأشكال أسهل ممّا يقبلانه؟
ثمّ الأرواح الحيوانية والأنوار الحسّيّة لكونها ألطف من الثلاثة كيف تقبل الصور المحسوسة بها دفعة بلا مهلة؟ ولطافة جواهر النفوس على تفاوت مراتبها في اللطافة والكثافة أشدّ بكثير من لطافة الأنوار المحسوسة والأضواء ؛ ولهذا
__________________
(١) ـ الفتوحات المكية : ١ : ١٥٤ ، مداوي الكلوم وعلم الفلك.
(٢) ـ سورة عبس ، الآية ٣٧.