وإذا تحققت المشيئة الّتي تصرف القدرة إلى مقدورها انصرفت القدرة لا محالة ، ولم يكن لها سبيل إلى المخالفة ، فالحركة لازمة ضرورة بالقدرة ، والقدرة محرّكة ضرورة عند انجزام المشيئة ، والمشيئة تحدث ضرورة في القلب عقيب الداعي.
فهذه ضروريات ترتّب بعضها على بعض ، وليس لنا أن ندفع وجود شيء منها عند تحقق سابقه ، فليس يمكن لنا أن ندفع المشيئة عند تحقق الداعي للفعل ، ولا انصراف القدرة إلى المقدور بعدها ، فنحن مضطرّون في الجميع ، فنحن في عين الاختيار مجبورون ، فنحن إذن مجبورون على الاختيار.
قال بعض العلماء : الحوادث كلها مستندة إلى القدرة الأزلية ، ولكن بعضها مرتّب على البعض في الحدوث ، ترتّب المشروط على الشرط ، فلا تصدر من القدرة الأزلية والقضاء الإلهي إرادة حادثة إلّا بعد علم ، ولا علم إلّا بعد حياة ، ولا حياة إلّا بعد محلّها ، ولكن بعض الشروط ممّا ظهر للعامة ، وبعضها ممّا لم يظهر إلّا للخواص المكاشفين بنور الحق ، فكلّ ما في عالم الإمكان حادث على ترتيب واجب ، وحق لازم ، لا يتصور أن لا يكون كما يكون ، وعلى الوجه الّذي يكون ، فلا يسبق سابق إلّا بحق ، ولا يلحق لا حق إلّا بحق ، كما أشير إليه بقوله سبحانه : (ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِ) (١).
فما تأخّر متأخّر إلّا لانتظار شرطه ؛ إذ وقوع المشروط قبل وقوع الشرط ممتنع ، والمحال لا يوصف بكونه مقدورا ، فلا يتخلّف العلم عن النطفة إلّا لفقد شرطه ، وهو الحياة، ولا الإرادة عن العلم إلّا لفقد شرطها ، وهو القدرة ، ولا الفعل عن القدرة إلّا لفقد شرطه ، وهو الإرادة ، وكل ذلك على المنهاج الواجب ،
__________________
(١) ـ سورة الدخان ، الآية ٣٩.