البديهي ؛ كان كالفرع القادح في الأصل ، وكل ما كان كذلك كان فاسدا.
فعلمنا : أن العلوم الكسبية يمتنع كونها قادحة في العلوم البديهية ، ثم لما أردنا أن نبحث عن حقيقة العلوم البديهية ، لم نجد لها معنى إلا العلم الحاصل في النفس ابتداء ، على سبيل الجزم ، من غير أن يقدر الإنسان على تشكيك نفسه فيه ، وكل ما كان كذلك كان علما بديهيا. إذا عرفت هذه المقدمة. فنقول : إنا إذا رأينا إنسانا شابا قطعنا بأنه كان جنينا في رحم أمه ، ثم بعد الانفصال من رحم أمه ، كان طفلا ، ثم صار شابا. ولو أن قائلا قال: إنه ما كان كذلك ، بل إنه حدث الآن شابا ، من غير هذه المقدمات والسوابق. قطعنا : بأنه كاذب في هذا القول ، وجزمنا بأن الذي يقوله : باطل وبهتان. فلما كان هذا الجزم حاصلا ابتداء ، من غير أن يستفاد ذلك الجزم من دليل متقدم ، ومن قياس سابق ، علمنا : أنه جزم بديهي ، وعلم أولي ، وإذا ثبت هذا فنقول : لو قلنا : إن حدوث إنسان شاب ، ابتداء من غير تلك المقدمات والسوابق ممكن لزم أن يحصل مع هذا التجويز ذلك القطع والجزم. لكنا بينا أن ذلك القطع والجزم بديهي فثبت أن الحكم بهذا التجويز حكم نظري ، يوجب القدح في البديهي. وقد بينا : أن كل ما كان كذلك ، فإنه باطل ، فوجب أن يكون الحكم بهذا التجويز باطلا. فيثبت بهذا الطريق : أن القول بانخراق العادات عن مجاريها : قول باطل. إذا عرفت هذا الأصل فلنذكر له أمثلة.
المثال الأول : لو أن إنسانا جوز أن تنقلب مياه البحر والأودية دما عبيطا وأن تنقلب الجبال ذهبا إبريزا ، لقضى كل عاقل بالجنون عليه.
المثال الثاني : لو أن إنسانا (١) جوز أن ينقلب الحمار الذي في بيته إنسانا حكيما محيطا بدقائق المنطق والهندسة ، مدرسا فيها ، وأن تنقلب ما في الدار من الخنافس والديدان: أناسا ، حكماء فضلاء ، وجوز إنه إذا رجع إلى بيته ، وجد حماره قائما مقام بطليموس في تدريس كتاب المجسطي ووجد الخنافس
__________________
(١) لو أننا جوزنا (ت ، ط).