فيها. وهذا يقال بالنسبة للرواية التي يرويها البغوي كمناسبة لنزول الآية الثالثة حيث ظن النبي والسائلون أنهم أثموا بالاستغفار لآبائهم بعد نزول الآيتين فنزلت الآية الثالثة بعدهما. والله تعالى أعلم.
ومع أن الآيات الثلاث تبدو كما قلنا فصلا جديدا فإنّ وضعها بعد سلسلة الآيات التي نزلت عقب غزوة تبوك قد يسوغ القول إن الحوادث التي نبهت ونهت عنها الآيات كانت بعد العودة من هذه الغزوة.
والمتبادر أن وصف إبراهيم عليهالسلام بالأوّاه الحليم هدف إلى التنبيه على أنه لا يمكن أن يفعل شيئا لا يرضاه الله تعالى لأنه شديد الخوف منه وإن ما كان من وعده لأبيه قبل أن يصبح عداؤه لله يقينيا إنما جاء من رأفته وحلمه وإشفاقه ولكن ذلك لم يحل دون تبرئه منه حالما تيقن من ذلك العداء. وفي هذا تلقين جليل مستمر المدى كما هو ظاهر.
ولقد احتوت الآية الثالثة أساسا إيمانيا وتشريعا جليلا. وهو أن الله عزوجل لا يؤاخذ مسلما على عمل لم ينه عنه. وأن كل ما لم يؤمر المسلمون باجتنابه بنصّ قرآني أو نبوي صحيح مما ليس فيه منكر وإثم وفاحشة بينة هو مباح لهم. وهذا متسق مع ما قرره القرآن في مواضع عديدة وأساليب متنوعة نبهنا عليها في مناسبات سابقة. وهناك حديث يرويه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم يصح أن يورد كضابط عظيم في هذا الصدد ونصه «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم فإنما أهلك الذين قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم» (١).
وجملة (ما كانَ لِلنَّبِيِ) قرينة قرآنية أخرى على أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قد يجتهد في أمر يكون غيره الأولى في غيب الله تعالى فينزل قرآن بالعتاب أو التنبيه أو النهي مع بيان ما هو الأولى. وهذا لا يتناقض مع العصمة الواجب الإيمان بها فيه
__________________
(١) التاج ج ١ ص ٣٧.