ثم ما أكثر ما أخذ الناس وأعطوا فى ظل الدعوة لتثبت أركانها فى نفوسهم ، وهذا ـ وإن كان فى علم السماء قبل أن يقع ـ لكنه كان على حياة الناس جديدا لم يقع ، وكان لا بد أن يلقنوا بيانه مع زمانه وأوانه.
وهكذا لم تكن الرسالة كلمة ساعتها ، وإنما كانت كلمات أعوام ثمانية عشر ، وكانت هذه الكلمات كلها فى علم السماء وفى اللوح المحفوظ ، ولكنها نزلت إلى علم الناس مع زمانها وأوانها.
لهذا نزل القرآن منجما ، ولقد خال المشركون أن دعوة الرسول إليهم كلمة ، وأن صفحته معهم صفحة ، وفاتهم أن الدعوة معها خطوات ، وأن هذه الخطوات معها جديد على علمهم لا على علم السماء ، وما أحوجهم مع كل جديد إلى مزيد ، ومن أجل هذا الذى فاتهم استنكروا أن ينزل القرآن منجما وقالوا : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) الفرقان : ٣٢ ، وكان جواب السماء عليهم (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) الفرقان : ٣٢ ، أى : جعلناه بعضه فى إثر بعض ، منه ما نزل ابتداء ومنه ما نزل فى عقب واقعة أو سؤال ، ليكون فى تتابعه مع الأحداث ، وما تثيره من شكوك ، ما يرد النفوس إلى طمأنينة ، والأفئدة إلى ثبات.
وإنك لو تتبعت أسباب النزول فى القرآن ومواقع الآيات لتبينت أن رسالة الرسول لم تكن جملة واحدة ليكون القرآن جملة واحدة ، بل كانت أحداثا متلاحقة تقتضى كلمات متلاحقة.
فلقد نزلت آية الظهار فى سلة بن صخر ، ونزلت آية اللعان فى شأن هلال بن أمية ، ونزلت آية حد القذف فى رماة عائشة ، ونزلت آية القبلة بعد الهجرة وبعد أن استقبل المسلمون بيت المقدس بضعة عشر شهرا ، ونزلت آية اتخاذ مقام إبراهيم مصلى حين سأل عمر الرسول فى ذلك ، كذلك كانت الحال فى الحجاب ، وأسرى بدر ، وغير ذلك كثير ، فكان القرآن ينزل بحسب الحاجة خمس آيات ، وعشر آيات ، وأكثر وأقل ، وقد صح نزول عشر آيات فى قصة الإفك جملة ،