فتضاعفت اللذة ثالثة. فالالتذاذ بالأبيات بهذا السر فطرة قديمة للناس. والأمزجة السليمة من أهل الأقاليم المعتدلة متفقة على ذلك.
ثم وقعت في توافق الأجزاء من كل بيت ، وفي شرط القافية المشتركة بين الأبيات ، مذاهب مختلفة ورسوم متباينة ، فاختار العرب قانونا وضعه الخليل وأوضحه إيضاحا.
والهنود يتبعون رسما يحكم به ذوقهم وقريحتهم ، وكذلك اختار أهل كل زمان وضعا وسلكوا طريقا. فإذا انتزعنا من هذه الرسوم والمذاهب المختلفة أمرا جامعا ، وتأملنا سرّا منتشرا ، وجدنا الموافقة أمرا تخمينيا لا غير.
مثلا ، يذكر العرب مقام مستفعلن مفاعلن ومفتعلن ، ويعدون مقام فاعلاتن فعلاتن وفاعلتن على القاعدة ، ويجعلون موافقة ضرب بيت بضرب بيت آخر ، وموافقة عروض بيت لعروض بيت آخر ـ من المهمات. ويجوّزون في الحشو كثيرا من الزحافات. بخلاف شعراء الفرس. فإن الزحافات عندهم مستهجنة. وكذلك تستحسن العرب إن كانت القافية في بيت «قبور» أن يكون في بيت آخر «مثير» بخلاف شعراء العجم. وكذلك شعراء العرب يعدون «حاصل» و «داخل» و «نازل» من قسم واحد بخلاف شعراء العجم. وكذلك وقوع كلمة في المصراعين ، بحيث يكون نصفها في مصراع ونصفها الآخر في مصراع آخر عند العرب لا عند العجم. وبالجملة فإن موافقة الأمر المشترك موافقة تخمينية ، لا موافقة حقيقية. ومبنى أوزان الأشعار عند الهند على عدد الحروف. بغير ملاحظة الحركات والسكنات ، وهو أيضا مما يتلذذ به. وقد سمعنا بعض أهل البدو ، ممن يتلذذ بتغريداته ، يختارون كلاما متوافقا بتوافق تخمينيّ ، برديف يكون تارة كلمة واحدة وأخرى يزيد عليها. وينشدون تغريداتهم مثل القصائد. فيتلذذون بها. ولكل قوم أسلوب خاص في نظمهم. وعلى هذا القياس وقع اتفاق الأمم على الالتذاذ بألحان ونغمات واختلافهم في رسوم التغريد والقواعد محقق.
وقد استنبط اليونانيون أوزانا سموها بالمقامات واستخرجوا منها شعبا دوّنوا لهم فنا شديد التفصيل. وأهل الهند تفطنوا لستّ نغمات وفرّعوا منها نغيمات. وقد رأينا أهل البدو تباعدوا عن هذين الاصطلاحين ، وتفطنوا بحسب سليقتهم للتأليف والإيقاع ، فهذبوا لهم أوزانا معدودة بغير ضبط الكليات وحصر الجزئيات. فإذا نظرنا بعد هذه الملاحظات إلى حكم الحدس لم نجد هاهنا أمرا مشتركا سوى الموافقة التخمينية. ولا يتعلق تخمين العقل إلا بذلك المنتزع الإجماليّ. لا بتفصيل القوافي