لذلك هو بعد السامع عن فهم القرآن ...! وأعني بالفهم : ما يكون عن ذوق سليم تصيب أساليب القرآن بعجائبها ، وتملكه مواعظها ، فتشغله عمّا بين يديه مما سواه. لا أريد الفهم المأخوذ بالتسليم الأعمى من الكتب أخذا جافا ، لم يصحبه ذلك الذوق وما يتبعه من رقّة الشعور ولطف الوجدان اللذين هما مدار التعقل والتأثر والفهم والتدبر ...
لهذا كلّه ، يمكننا أن نقول : إن الجاهلية اليوم أشدّ من الجاهلية والضالين في زمن النبي صلىاللهعليهوسلم ، لأن من أولئك من قال الله تعالى فيهم : (يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) [البقرة : ١٤٦] ، ومعرفة الحقّ أمرّ عظيم شريف ...! نعم ، ربما كان إثم صاحبها مع الجحود أشد ، ولكنه يكون دائما ملوما من نفسه على الإعراض عن الحقّ. وهذا اللوم يزلزل ما في نفسه من الإصرار على الباطل.
كان البدويّ راعي الغنم يسمع القرآن فيخرّ له ساجدا لما عنده من رقّة الإحساس ولطف الشعور ...! فهل يقاس هذا بأيّ متعلم اليوم؟ أرأيت أهل جزيرة العرب كيف انضووا إلى الإسلام بجاذبية القرآن لما كان لهم من دقّة الفهم التي كانت سبب الانجذاب إلى الحقّ ..!
ـ وأشار الأستاذ هنا إلى البنت الأعرابية التي فطنت لاشتمال الآية على أمرين ونهيين وبشارتين ـ ومجمل الخبر : أنّ الأصمعي قال : سمعت بنتا من الأعراب خماسية أو سداسية تنشد :
أستغفر الله لذنبي كلّه |
|
قتلت إنسانا بغير حلّه |
مثل غزال ناعم في دلّه |
|
وانتصف الليل ولم أصلّه |
فقلت لها : قاتلك الله ما أفصحك! فقالت : ويحك! أيعدّ هذا فصاحة مع قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ ، فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي ، إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) [القصص : ٧] فجمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وبشارتين ...!
لما رأى علماء المسلمين في الصدر الأول تأثير القرآن في جذب قلوب الناس إلى الإسلام ، وأنّ الإسلام لا يحفظ إلّا به ، ولما كان العرب قد اختلطوا بالعجم ، وفهم من دخل في الإسلام من الأعاجم ما فهمه علماء العرب ، أجمع كلّ على وجوب حفظ اللغة العربية ، ودوّنوا لها الدواوين ، ووضعوا لها الفنون.