صحت الإشارة بذلك ، هنا إلى ما ليس ببعيد ، لتعظيم المشار إليه ، ذهابا إلى بعد درجته وعلوّ مرتبته ومنزلته في الهداية والشرف.
والريب في الأصل : مصدر رابني إذا حصل فيك الريبة. وحقيقتها : قلق النفس واضطرابها. ثم استعمل في معنى الشك مطلقا ، أو مع تهمة. لأنه يقلق لنفس ويزيل الطمأنينة.
وفي الحديث : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» (١).
ومعنى نفيه عن الكتاب. أنه في علوّ الشأن ، وسطوع البرهان ، بحيث ليس فيه مظنة أن يرتاب في حقيقته ، وكونه وحيا منزلا من عند الله تعالى. والأمر كذلك ، لأن العرب ، مع بلوغهم في الفصاحة إلى النهاية ، عجزوا عن معارضة أقصر سورة من القرآن. وذلك يشهد بأنه بلغت هذه الحجة في الظهور إلى حيث لا يجوز للعاقل أن يرتاب فيه ، لا أنه لا يرتاب فيه أحد أصلا.
(هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) أي : هاد لهم ودالّ على الدين القويم المفضي إلى سعادتي الدارين.
قال الناصر في الانتصاف : الهدى يطلق في القرآن على معنيين (أحدهما) الإرشاد وإيضاح سبيل الحق. ومنه قوله تعالى : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) [فصلت : ١٧]. وعلى هذا يكون الهدى للضالّ باعتبار أنه رشد إلى الحق ، سواء حصل له الاهتداء أو لا. و (الآخر) خلق الله تعالى الاهتداء في قلب العبد ، ومنه (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام : ٩٠]. فإذا ثبت وروده على المعنيين فهو في هذه الآية يحتمل أن يراد به المعنيان جميعا. وعلى الأول ، فتخصيص الهدى بالمتقين للتنويه بمدحهم حتى يتبيّن أنهم هم الذين اهتدوا وانتفعوا به ، كما قال تعالى : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) [النازعات : ٤٥]. وقال (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) [يس : ١١]. وقد كان ، صلىاللهعليهوآلهوسلم ، منذرا لكل الناس ، فذكر هؤلاء لأجل أنهم هم الذين انتفعوا بإنذاره. وهذه الآية نظير آية : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ ، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ، أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) [فصلت : ٤٤] ، (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) [الإسراء : ٨٢]. وكقوله
__________________
(١) أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن أنس بن مالك.