القول في تأويل قوله تعالى :
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) (٨)
أصل ناس أناس ، حذفت همزته تخفيفا ، وحذفها مع لام التعريف كاللازم. ويشهد لأصله إنسان ، وأناس ، وأناسيّ ، وإنس. وسموا لظهورهم وأنهم يؤنسون أي يبصرون ـ كما سمي الجن لاجتنانهم ـ ولذلك سموا بشرا. وقيل : اشتقاقه من الأنس ـ ضدّ الوحشة ـ لأن الإنسان مدنيّ بالطبع. والأوّل أظهر.
واعلم أن صفات المنافقين إنما نزلت في السور المدنية. لأن مكّة لم يكن فيها نفاق ، فلما هاجر رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى المدينة ، وكان بها الأنصار من الأوس والخزرج ، وكانوا في جاهليتهم يعبدون الأصنام على طريقة مشركي العرب. وبها اليهود ـ من أهل الكتاب ـ وهم ثلاث قبائل : بنو قينقاع ـ حلفاء الخزرج ـ وبنو النّضير وبنو قريظة ـ حلفاء الأوس ـ فلما قدم رسول الله صلىاللهعليهوسلم المدينة ، وأسلم من أسلم من الأنصار من قبيلتي الأوس والخزرج ، وقلّ من أسلم من اليهود ـ إلا عبد الله بن سلام رضي الله عنه ـ ولم يكن إذ ذاك نفاق أيضا ، لأنه لم يكن للمسلمين ، بعد ، شوكة تخاف ، بل قد كان عليه الصلاة والسلام وادع اليهود وقبائل كثيرة ـ من أحياء العرب حوالي المدينة ـ. فلما كانت وقعة بدر العظمى ، وأظهر الله كلمته ، وأعزّ الإسلام وأهله ، قال عبد الله بن أبيّ بن سلول ـ وكان رأسا في المدينة ، وهو من الخزرج ، وكان ابن سيد الطائفتين في الجاهلية ، وكانوا قد عزموا على أن يملّكوه عليهم ، فجاءهم الخبر ، وأسلموا ، واشتغلوا عنه ، فبقي في نفسه من الإسلام وأهله. فلما كانت وقعة بدر ، قال : هذا أمر قد توجّه. فأظهر الدخول في الإسلام ، ودخل معه طوائف ـ ممن هو على طريقته ونحلته ـ وآخرون من أهل الكتاب ، فمن ثمّ وجد النفاق في أهل المدينة ، ومن حولها من الأعراب.
القول في تأويل قوله تعالى :
(يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) (٩)
قال القاشانيّ : المخادعة استعمال الخدع من الجانبين ، وهو إظهار الخير ، واستبطان الشر. ومخادعة الله مخادعة رسوله ، لقوله (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [النساء : ٨٠]. فخداعهم لله وللمؤمنين إظهار الإيمان والمحبة ، واستبطان