أولئك الميّتون ، فالموت والإحياء واقعان في مجموعهم ، على ما عهدنا من أسلوب القرآن ، إذ خاطب بني إسرائيل في زمن تنزيله بما كان من آبائهم الأوّلين بمثل قوله تعالى : (نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ)(١). وقوله : (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ)(٢). وغير ذلك. وقلنا : إنّ الحكمة في هذا الخطاب تقرير معنى وحدة الأمّة وتكافلها ، وتأثير سيرة بعضها في بعض ، حتّى كأنّها شخص واحد ، وكلّ جماعة منها كعضو منه ، فإن انقطع العضو العامل لم يكن مانعا من مخاطبة الشخص بما عمله قبل قطعه ، وهذا الاستعمال معهود في سائر الكلام العربيّ ؛ يقال : هجمنا على بني فلان حتّى أفنيناهم أو أتينا عليهم ، ثمّ أجمعوا أمرهم وكرّوا علينا ـ مثلا ـ وإنّما كرّ عليهم من بقي منهم.
قال : وإطلاق الحياة على الحالة المعنويّة الشريفة في الأشخاص والأمم ، والموت في مقابلها معهود ، كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ)(٣). وقوله : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها)(٤).
قال : وانظر إلى دقّة التعبير في عطف الأمر بالموت ، على الخروج من الديار ، بالفاء الدالّة على اتّصال الهلاك بالفرار من العدوّ ، وإلى عطفه الإخبار بإحياءهم بثمّ الدالّة على تراخي ذلك وتأخّره.
ولأنّ الأمّة إذا شعرت بعلّة البلاء بعد وقوعه بها وذهابه باستقلالها ، فإنّه لا يتيسّر لها تدارك ما فات إلّا في زمن طويل وجهد جزيل.
قال السيّد رشيد الرضا : ما قرّره الاستاذ الإمام هو ما يعطيه النظم البليغ وتؤيّده السنن الحكيمة. وأمّا الموت الطبيعيّ فهو لا يتكرّر ، كما علم من سنّة الله (٥).
قال الاستاذ عبده ـ بعد ذاك التقرير ـ : هذا هو المتبادر ، فلا نحمل القرآن ما لا يحمل ، لنطبّقه على بعض قصص بني إسرائيل! والقرآن لم يقل : إنّ أولئك الألوف منهم ، كما قال في الآيات الآتية وغيرها.
قال : لو فرض صحّة ما قالوه من أنّهم هربوا من الطاعون ، وأنّ الفائدة في إيراد قصّتهم بيان أنّه
__________________
(١) البقرة ٢ : ٤٩.
(٢) البقرة ٢ : ٥٦.
(٣) الأنفال ٨ : ٢٤.
(٤) الأنعام ٦ : ١٢٢.
(٥) وهذا لا ينافي تكرّره بخرق العادة ، عند اقتضاء الحكمة.