قول موسى : (لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) يعني الإنسان الكامل ، وقد وقف في البرزخ بين الروح من جهة وبين الأسماء من جهة أخرى ، فإذا كان موسى هنا عقلا فأخوه هو ما اشتق من العقل أي النفس الكلية ، والعقل لدى الصدور ليس له إلا نفسه ، أي ذاته ، وأخوه أي النفس الكلية القابلة للفعل وارتسام صور المعقولات فيها.
٢٦ ـ (قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٦))
[المائدة : ٢٦]
التيه الخضوع لتقلبات الخواطر والشك والوساوس والاعتماد على الحواس لا غير ، والأربعون سنة هي سن إعلام النبوة ، فموسى حتى الأربعين لم يكن قد أتاه اليقين ، فكان من المقلبين ، وكان من المجاهدين ، حتى إذا قارب الأربعين أتاه اليقين وعلوم اليقين.
والملاحظ في هذا التأويل الانتقال من الكثرة إلى الوحدة باعتبار الوحدة أصل الكثرة ، وباعتبار الكثرة ظهور الوحدة ، وهذه هي الصورة الجامعة للإنسان الكامل الذي هو الروح المدبر للعالم كما جاء في الفتوحات لابن عربي ، وكما فصلنا القول في كتابنا الإنسان الكبير.
فباطن الإنسانية عقل وظاهرها حواس ، والقلب في برزخ بين الروح والحواس ولهذا سمي قلبا لتقلبه بين الروح والنفس التي هي مرآة الحواس ، والناس على هذا السلم الوجودي طبقات ، فمنهم من هو أقرب إلى الروح ، ومنهم من هو أقرب إلى النفس والحواس ، ومنهم الشقي ومنهم السعيد ومنهم المؤمن ومنهم الكافر ، ومنهم المقرب للمكالمة نجيا ، وكلهم كثرة أصلها الوحدة الجامعة التي تحدثنا عنها آنفا.
٢٧ ـ (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧))
[المائدة : ٢٧]
ابنا آدم ممثلا أسماء الجمال وأسماء الجلال ، وآدم الجامع لهما وبينهما إذ هو أبوهما ، فآدم رمز الجامع ، والقربان المعقولات التي انفلقت عنها المحسوسات ، وهي صنفان معقولات جمالية ومعقولات جلالية ، إذ الملاحظ أن أفلاطون جعل لكل ما في الوجود العياني مثلا أي معقولات.
ولقد تقبل الله من ابن آدم الواحد المعقولات الجمالية باعتبارها صفات إلهية حصلها ابن آدم بالجهاد. ولكن الله لم يتقبل من الابن الآخر قابيل المعقولات الجلالية التي حصلها بالسلب والشر ، والشر كما اتفقت الحكماء من فلاسفة وصوفيين معدوم في ذاته ، فهو مستند إلى الخير باعتباره شرا وترده إلى الخير كما بينا باعتباره إخراجا للخير من جانب الضدية ،