والله جامع للتضاد كما أجاب أبو سعيد الخراز لما سئل كيف عرف الله ، فقال : بالجمع بين الضدين ، فهو سبحانه فوق الخير والشر ، والخير والشر من صنعه تعريفا لقدراته وإظهارا لمعقولاته.
وختمت الآية بالقول : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) أي أن الله يتقبل من الذين اتقوه ، أي اتقوا أنفسهم وأنيتهم وصفاتهم ومعقولاتهم وحواسهم وقدموها كلها قربانا إلى الله باعتباره الخالق المصور البديع الفاعل ، وهم لها ظهور وواسطة ظهور ، فليس لهم من الأمر شيء.
أما الكفار والأشرار فهم ليسوا متقين ، ولهذا سبب فالشر مادام ممسكا بالأنا والصفة فمآله الاحتجاب عن الله ، إذ الكافر كافر بوجود الله متمسك بأناه ، ولقد ربطت الآية التقى بالتقبل الإلهي ، والكفر بالرفض الإلهي أو الحجاب.
٢٨ ـ (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨))
[المائدة : ٢٨]
القتل محاولة أسماء الجلال السيطرة على أسماء الجمال وقتلها أي إفنائها وتعطيل قواها ، وهذا واضح في مجال الجهاد ، ولقد أعلن ممثل أسماء الجمال هابيل أن لو بسط أخوه يده إليه ليقتله فلن يبسط هويده إليه ليقتله ، وللقول لطيفة فحواها قبول الخير والشر من الله تعالى ، وجاء في سورة الفلق : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (١) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) (٢) فمسرح الوجود يقتضي وجود النقيضين ، ولا وجود للوجود من غير تضاد ، ولهذا أمر النبي صلىاللهعليهوسلم بأن يأخذ العفو ، وكان شعار الإسلام السّلام ، وإلى هذه اللطيفة الجامعة أشارت الآية بالقول الخاتم : (إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) أي رب الخير والشر والنور والظلام.
٢٩ ـ (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩))
[المائدة : ٢٩]
التبوء احتلال المكانة المقدرة أزلا كما جاء في الحديث أن الله خلق الجنة وأهلها والنار وأهلها وهم في أصلاب آبائهم ، أما الإثم فهو حاصل عمل النفس الأمارة التي هي القرين الذي تحدث عنه النبي عليهالسلام ، فهابيل كان له نصيبه من هذا القرين ، وكذلك قابيل ، ولكن هابيل نجا من وسوسة هذا القرين بفضل من ربه ورحمته مقدرتين أزلا كما جاء في الحديث الشريف : (إن الله خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره فمن أصابه ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل) ، وقابيل لم يؤت نور الهدى لينجو من شر الوسوسة ، فكان جزاؤه تبوء مكانته بإثمه وإثم أخيه هابيل.