أولا ، ويثبتوه بالأدلة أيضا ، فليس في الدنيا مكر ، مثل مكر الفكر ، وكل حزب بما لديهم فرحون.
وثمة لطيفة في قوله سبحانه : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا ،) إذ أنه سبحانه أرجع فعل المكر هنا إليه ، فما يفعله الفكر من مكر هو بإذن الله وبقصد تحقيق مكر كوني عام ليتحقق قوله تعالى : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) [البقرة : ٢٥١] فالقصد حصول الخلاف ، ثم حصول الجهاد ، ثم حدوث الشهادة أو الوصول إلى مقام الإحسان أي التسليم للمشيئة الإلهية والهدف إخراج مضامين الأسماء الإلهية.
١٢٤ ـ (وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (١٢٤))
[الأنعام : ١٢٤]
قوله سبحانه : (لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) يعني أن أصحاب الفكر لا يسلمون بالوحي ووجوده ، وهذا هو السبب الذي حفز الإمام الغزالي على شن هجومه على أصحاب الفكر وبخاصة الأرسطيين ، ووضع كتابه الشهير" تهافت الفلاسفة" ، وتفيد الآية أن ما يضمره هؤلاء هو الحسد ، إذ أنهم لما سمعوا أن الوحي نزل على أحد من الناس ثاروا به ، وأبوا أن يصدقوه ويصدقوا وحيه ، علما أن الحق أبان أن سبب رفض هؤلاء الوحي وأصحابه ليس عدم الإيمان به بل لأنه لم ينزل عليهم هم ، فالمفكرون عند ما يرون هذه الايات الظاهرة يعجبون ويبهتون ويحسدون.
وقوله سبحانه : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) يعني أن الله حر أولا لا يتوجب عليه شيء ، ثم إنه عليم حكيم يعلم أين ينزل وحيه وعلى أي قلب ، وفي الأمر لطيفة ، فكل نبي أو رسول أو ولي وارث هو تعين الحقيقة الروحية الكلية الجامعة ، وهذا أمر مقدر مسبقا حتى من قبل أن يكون المتعين جنينا في بطن أمه ، فهؤلاء السادة يخلقون سادة ، وينشؤون سادة ، ويأيتهم الوحي باعتبارها سادة ، سبحانه اصطفى من ذرية آدم آحاد أفراد ، جعلهم موضع السر والنجوى والمكالمة والمكاشفة ، إنه عليم حكيم يعلم أين يجعل رسالته ، قال العارف بالله إبراهيم الدسوقي : كنت وأولياء الله تعالى أشياخا في الأزل بين يدي قديم الأزل وبين يدي رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وأن الله عزوجل خلقني من نور رسول الله ، وأمرني أن أخلع على جميع الأولياء بيدي ، وقال لي رسول الله : يا إبراهيم أنت نقيب عليهم ، فكنت أنا ورسول الله وأخي عبد القادر خلفي ، ثم التفت إلي رسول الله وقال لي : يا إبراهيم سر إلى مالك ، وقل له يغلق النيران ، وسر إلى رضوان وقل له يفتح الجنان ، ففعل مالك ما أمر به ، ورضوان ما أمر به ، وما يعلم ما قلته إلا من انخلع من كثافة حجبه ، وصار مروحنا كالملائكة ، وقال سهل التستري