الخلق صدور النفوس الجزئية من النفس الكلية ، وتشبيه الأمر عند الصوفيين والفلاسفة الموحدين بالشمس وأشعتها ، فلا انفصال بين النفس الكلية والنفوس الجزئية ، ولهذا تقول الصوفية : هي هو ، والتصوير إعطاء الاسم حقه من الوجود ، أي منحه من الوجود ، أي منحه الرحمة الرحمانية التي هي الحياة ، وسميت هذه الرحمانية في الحديث النبوي الهباء ، وفي الفلسفة الهيولى ، وتضرب فلاسفة الصوفية مثلا لهذا القماش والخياطة ، فالقماش الهيولى ، وخياطته إعطاؤه صورته من قميص أو ثوب أو سروال ، وصورة الإنسان اسمه ، واسمه طبعه أي ما يتصف به من خلال كالمؤمن والصبور والشكور ، ولهذا تحذر الصوفية من داء العجب بضم العين ومن القول أنا المؤمن ، أنا الشاكر ، أنا الذاكر ، أنا المعطي ، أنا المصلي دون تذكر من هو واهب هذه الخلال.
والملائكة المعقولات نفسها التي هي طوع بني آدم ، والأمر الصادر إليها بالسجود لآدم معناه أن تكون قواها وإمكاناتها تحت تصرفه ، ولهذا السجود لطيفة ، إذ المعقول لا وجود له إلا بالتعين وتعينه هو الإنسان الذي هو حامله ، فلو لا الإنسان ما ظهر الخير مثلا ، ولا عرف ، ولكان في حكم العدم ، فالإنسان رفع فوق ملائكة المعقولات لأنه حمل أمانة هذا القول الثقيل.
وإبليس الوجه الآخر لتضاد الأسماء ، فإبليس هو جمعية أسمائية أيضا ، ومقامه مثل مقام آدم قبل أن يؤمر بالسجود له ، ولكنه مثّل بعد الرفض الجانب المظلم من الذات ذات الشطرين المتضادين ، وكونه من نار يعني أنه لطيف المعدن ، شفاف ، إذ هو من الجن ، وكان رئيس الملائكة ، وكان اسمه عزازيل ، فكل ملك وجن لطيف شفاف لأن طبيعة المعقول لطيفة وشفافة أيضا ، أما آدم نفسه فلقد خلق من طين العناصر ، فكان المعقول بطبيعته الشفافة يفضل طبيعة آدم الكثيفة ، ولهذا كان اعتراض إبليس.
١٣ ـ (قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣))
[الأعراف : ١٣]
الهبوط خروج من طبيعة المعقول نفسه إلى طبيعة المحسوس أو العيان أي خروج من الشفافية إلى الكثافة ، ولما كان آدم كثيفا كان هبوط إبليس إلى نفس آدم نفسها ، ولهذا جاء في سورة الناس وصف لإبليس الذي يوسوس في صدور الناس ، فإذا كان الحق في الذات الإنسانية بالمعية ، فإبليس هو أيضا بالمعية ، ولكن معية محددة بالوسوسة والفساد.
ومعنى قوله : (مِنَ الصَّاغِرِينَ) أي أن إبليس من الأذلاء ، ومعنى الذل هنا كون إبليس أيضا مثل آدم في القبضة ، فلا خروج لأحد على القبضة القاهرة.