وقوله : (لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) يعني إطلاع نوح كشفا على خارطة الأسماء الحسنى حيث يظهر الناس فيها مثل دود على عود. فالأعواد الأسماء والديدان البشر ، وقد ضمّ كل عود عددا منهم ، فمنهم الكافر والمؤمن والحليم والمغضوب عليهم والرفيع والذليل والحليم والمنتقم. ولما رأى نوح هذه الخارطة علم أنه لن يؤمن له إلا فريق من هؤلاء البشر الظاهرين ، وأن من آمن له هم المدرجون في اسمه تعالى المؤمن والمنضوون تحته .. أما الباقون فلن يؤمنوا لأنهم كافرون محجوبون بحجب بقية الأسماء.
٣٧ ـ (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧))
[هود : ٣٧]
الفلك ما يعوم في الماء ، والماء هنا هيولى العالم المادي ، فالفلك العوم في هذا العالم والنجاة من الغرق فيه. وقوله : (بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا) إشارة إلى التكليم الذاتي الذي هو الوحي والتعليم بواسطة الأعين التي هي صور العالم العياني. والملاحظ أن الخطاب كان من الأعين جمع العين إلى المخاطب ، والعين الصفة من الإنسان وحقيقته ، والنتيجة أن التعليم اللدني يتم بواسطة تحريك هذه الصور عن طريق كشف اليقظة والمنام ، وهذا ما أشار إليه الحديث الشريف : (إن في الجنة سوقا ما فيه بيع ولا شراء إلا الصور من الرجال والنساء فإذا أراد الإنسان صورة دخل فيه).
٣٨ ، ٣٩ ـ (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (٣٨) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٩))
[هود : ٣٨ ، ٣٩]
السخرية من نوح ومن فلكه السخرية من الأنبياء والأولياء العارفين الذين يعتمدون الرؤى وسيلة للتعليم الذاتي. والملاحظ أن موقف أصحاب المنطق كان طوال التاريخ شديدا وساخرا من أصحاب الذوق والرؤى ، وعلى رأس هؤلاء وقف أرسطو وشيعته من الفلاسفة اليونانيين الذين كانوا يؤمنون بالوحي ، ثم وقف هيغل وقفته الشهيرة من الصوفية الشرقيين حين تمسك بأساليب المنطق ، ورفض الإيمان بطريق غيره إلى الحقيقة.
وقوله : (إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ) يعني رد فعل أهل العرفان على أصحاب المنطق بلغتهم ، إذ يكيلون لهم الصاع صاعين كما فعل الإمام الغزالي في كتابه تهافت الفلاسفة ، وكما فعل كانط في العصر الحديث حين شنّ هجومه على العقل وطرقه فاضحا عيوبه ، كاشفا نقاط ضعفه ، ورافضا التدليل على وجود الله بالأساليب المنطقية ، والقائل : إن الأخلاق وحدها هي البوابة والمدخل إلى عالم الشيء في ذاته ، لأن القانون