فرع من الجنس ، والجنس كلي ، فكل إنسان ممثل الجنس البشري ، ولا وجود له إلا بالكل. ولما كانت الجزئيات كثيرة كانت أسماؤها القاهرة كثيرة ، ولهذا يقول الناس أنا وأنا ، علما أن الأنا الجامعة جمعت كل هؤلاء الناس. ونوح الذي بلغ مرتبة الذات الكلية نجا من شر الأنا الجزئية وسورها المحيط بها ، وهذا ما سمي النجاة من الغرق. إذ يمّ الهيولى الكلية مغرق كل هذه الجزئيات. والعارفون يعرفون ويشهدون كيف أن الكل غرقى بحر الكلي حتى من قبل أن يغرقوا بالموت الطبيعي. ولهذا قال أبو يزيد البسطامي لما بلغ هذا المقام : رأيت الناس موتى فكبرت عليهم أربع تكبيرات. وقال عليهالسلام : (موتوا قبل أن تموتوا) ، أي أفنوا هذه النفس الجزئية في بحر الكلي ، لكي تنجوا من الغرق فيه إذا ظللتم تقولون أنا وأنا ، وما ثم من أنا إلا أنيته سبحانه ، وهي كونه موجودا وجودا أصليا حقيقيا قائما بذاته أزليا أبديا.
٤٣ ـ (قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (٤٣))
[هود : ٤٣]
الجبل الذي أوى إليه ابن نوح الأنا الجزئية نفسها ، لأن الجبل ما علا من الأرض ، والرأس هو الذي يعلو الجسد ، فالجبل إشارة إلى الرأس حيث الدماغ الذي هو مستودع الأنا الجزئية ، وتجد الناس يفرون من كل جهة في البحر ليرسوا في مرسى الأنا ، علما أن في هذا المرسى الهلاك وما يدرون ، ولهذا كان جواب نوح لولده لا عاصم اليوم من أمر الله.
وقوله : (إِلَّا مَنْ رَحِمَ) يعني نجاة العارفين من الغرق في البحر الكلي ، وذلك بأن يصيروا إليه ، ويصيروا هو كما قال العارف أرسلان الدمشقي : الإيمان خروجك عنهم واليقين خروجك عنك. ففي النجاة من سجن الأنا الجزئية يجد الإنسان نفسه في رحاب الأنا الكلية حيث بحر الألوهية الرحيب الذي هو الغبطة والنور العظيم ، وهو ما عبر عنه ابن الفارض بالتنعم بالأنية الإلهية.
٤٤ ـ (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٤))
[هود : ٤٤]
تمثل العملية ابتلاع الأرض النفس الجزئية التي مستودعها الدماغ كما قلنا. فالأرض تبلع ماء العلم المتفجر منها ، وقلنا الأرض إشارة إلى رأس الإنسان ، فالمعنى أن ما يحصله الإنسان من العلوم الحسية والمنطقية يعود فيتركه لها ، مادام علمه كله مرتبطا بالدماغ ورهينا بوجوده ، وكنا فصلنا الكلام في وصف حال الإنسان الدماغي في كتابنا «الإنسان الكبير» إذ قلنا : إن العجوز الخرف ينسى ما تعلمه في حياته حتى يعود جاهلا كما كان.