العذاب ترك الإنسان محجوبا ظانا فكره فكره ، فهو أسير هذه القبضة التي يظنها الأنا ، والأنا هوية جامعة ولكن في ظهور جزئي ، فيظل الجزئي سجين جزئيته وشيئيته ، ولهذا جاء في وصف العذاب أنه غليظ ، والغليظ هو الكثيف السميك ، أي أن الكافر سجين عالم المادة والأنا الجزئية الحاجبة عن الله.
٦١ ، ٦٢ ـ (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (٦١) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢))
[هود : ٦١ ، ٦٢]
كنا قد تحدثنا عن الحكمة من إخراج آدم المعقولات من الجنة وهبوطه مع حواء نفسه الحيوانية إلى الأرض ، وقلنا إن في الأرض جزئيات المعقولات المساعدة على فتق المعقولات نفسها ، ولهذا جاء في الآية : (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها).
وقوله : (إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) يعني كون الله بالمعية يسمع النجوى والخاطر ، وهو في الخفاء ، بل هو الخفي اللطيف في كل كثيف غليظ ، ولهذا كانت النفس الناطقة ظلا له ومرآة وأداة وجرسا موسيقيا تعزف عليه أنغام موسيقى الكون الخفية.
٦٣ ـ (قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (٦٣))
[هود : ٦٣]
البينة الفتح المبين الذي يجيء في فجر اليقين. والإنسان لفي شك ما لم يأته الفتح الذي يؤذن برفع الحجاب بين الإنسان والله ، فإذا الإنسان متحقق بأنه عبد لرب ، وأن هذه العبودية تؤدي إلى مقام العبدية الذي هو عين الحرية الحقيقية ، إذ فيه خلاص من سجن الأنية والشك والبعد عن الله ، وهذا معنى الرحمة الرحيمية التي يؤتيها الله عبده ، ويدخله في الصالحين.
والملاحظ أن صالحا قال في الآية : (إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) ولم يقل مثلا على بينة من الله أو من الحق ، ولقوله لطيفة متعلقة بكونه تعالى قريبا مجيبا ... ذلك أن صفة الرب تقتضي المربوب ، فلا رب بلا مربوب ، ولا مربوب بلا رب ، وكل مربوب مربوب لرب ، فالعلاقة متبادلة كما فصلنا الكلام في سر العلية والمعلولية. ولهذا قلنا إن الإنسان الداخل في رحمة الله يكتشف أنه عبد الله ، بعد أن يتحقق أنه مربوب للرب ، والمربوب عبد ، ولهذا جاء في اللغة في معنى العبد أنه الإنسان علما أن من معانيها العبودية كما أوضحنا ، ومن هنا القول الشائع فلان عبد فلان.