أما الفتى الآخر وهو الذي يمثل الفكر فلقد كان تعبير يوسف لمنامه أنه سيصلب ، والمعنى أن الفكر الذي هو إشعاع الأنا الجزئية سيموت ، والموت يكون معنويا ، أي يرى الفكر نفسه بنور الكشف أنه شعاع من العقل الفعال ، وأن الأنا الجزئية فرع الأنا الجامعة وأداة استقبال لها ، فيذوب الظل في الشمس ، ولا يبقى إلا الروح الجامع للأرواح ، ورمز إلى هذا الروح بالطير التي تأكل من رأس الفتى ، أي تأكل فكره الذي هو رأسه ، أي يكشف الروح للفكر أنه أصله وأسّه وإشعاعه ومصدر قواه ، وأن الفكر ليس إلا مرآة وبوقا ومعبرا ومحلا ووسيلة كما سبق أن قلنا.
والحوار كما يتبين بين يوسف وصاحبيه هو حوار ذاتي إذن ، فليس في الخلوة إلا يوسف وحده ، والفتيان قواه ، والإنسان كله مجموعة قوى سمتها الفلاسفة اليونانيون عقولا ، وجعلوها عقول أفلاك ، وعاد ابن عربي فجمع فأنشد قائلا :
وتحسب أنك جرم صغير |
|
وفيك انطوى العالم الأكبر |
فليس في الوجود إلا الله والإنسان الكامل الذي مثله يوسف لما رقى إلى مقامه الذي خص به أزلا.
٤٣ ، ٤٩ ـ (وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (٤٣) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (٤٤) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (٤٦) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (٤٩))
[يوسف : ٤٣ ، ٤٩]
الملك الروح الفاعل نفسه ، فهو العقل والعاقل والمعقول ، والثلاثة فيه بحكم الطي وبانتظار الفتق. وسؤاله عن الرؤيا سؤال الكلي للأجزاء علما أن علمه محيط ، وتقول الفلاسفة إن هذا هو علم الكليات ، وفرقوا بين العلم والمعلومات ، فقالوا : إن الأول ثابت أزلي محيط ومهيأ مسبقا لاحتواء علوم الجزئيات ، ولهذا دعي الحضرة العلمية الجامعة والوجود العلمي ، أما المعلومات فهي متغيرة تابعة لتطور الزمان والمكان ، ولهذا فإن الحق يلاحق هذه المعلومات في تغيرها وتطورها ليرى ما صار إليه أمرها. هكذا قال السهروردي الذي أضاف قائلا : ولا يتطلب تغير المعلومات تغيرا في الذات الإلهية.