١٠٩ ـ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠٩))
[يوسف : ١٠٩]
ثمة لطيفة في قوله : (إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) فكأنه يقول إن الكثرة ما هم إلا أهل القرى ، أي عامرو مدينة الجسم الكلي ، فهم بمثابة الظهور لا غير ، ولهذا وصفتهم الصوفية بأنهم أشباح وهياكل لا غير ، أما الرجال فهم رجال الله ، ولله رجال ، فالرجل هنا هو الرجل حقا كما قال نابليون لما رأى الشاعر الألماني غوته فقال : هذا هو الرجل فالرجل بمعنى الرجولة الحقة كالفتوة المشهورة في مصطلحات الصوفية. فالرجل إذن من عرف ربه ، والرجل من هذا المنظور من يوحى إليه ، فإن لم يوح إليه فهو ليس برجل ، وهو من ثم من أهل القرى والهياكل والأشباح.
١١٠ ـ (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠))
[يوسف : ١١٠]
النجاة مثل نجاة نوح حين صنع الفلك وركبه ، فنجا من طوفان الهيولى والمعنى أنه مادام الإنسان سجين أناه مستمعا صوت فكره المرتبط بالدماغ فمآله مآل الدماغ نفسه ، ولهذا قال عليهالسلام : (كلكم من آدم وآدم من تراب). فالمطلوب أن يركب الإنسان سفينة الله التي بسم الله مجراها ومرساها. فمن لم ينج من العالم الحسي ويدرك من هو وما جوهره ، ومن لم يلتحق بربه ليتحد بالأنا الكلية الخالصة من أدران عالم الحس والعناصر ، ومن لم يذب في بحر الألوهية الأكبر فهو هالك فان لا محالة.
١١١ ـ (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١١١))
[يوسف : ١١١]
العبرة من القصص الواردة في القرآن استنباط معناها الباطن. قال الشبلي في قوله تعالى : (لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ) (٧) و (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) : اشتغل العام بذكر القصص ، واشتغل الخاص بالاعتبار من القصص. فهذا الإعتبار هو الفهم الذي آتاه الله أهل البيت ففهموا باطن القرآن. فالقصص الواردة ما هي حديث يفترى أولا ، ورغم أنها قصص واقعية معاشة إلا أن لها صفة الإعتبار بما تضمنت من أمثال وآيات وعبر.
وفي ميدان الأدب يكون الأديب كبيرا وعظيما ، ويكون أدبه خالدا إذا كان ما يكتبه يتصف بالموضوعية والشمول والأبدية ، وللحديث صلة بكون ما يكتبه ذو البصيرة المفتحة مستمدا من