وقوله : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) إشارة إلى تغطية عالم الحس عالم الروح فالعالم الظاهري قد أخفى العالم الباطني وغطاه. والإنسان وحده من دون جميع المخلوقات هو الذي يتخذ سبيله من العالم الظاهر إلى العالم الباطن ، ولهذا قال ابن عربي : النفس الناطقة موجودة بين الطبيعة والنور بما جعل الله فيها من الفكر. وقالوا : الفكر يلطف الكثيف ، ويكثف اللطيف ، فهو قنطرة بين عالمي الغيب والشهادة .. ولهذا احتل الإنسان مكانة الإمارة بين المخلوقات ، ولهذا وسع قلبه الله عزوجل باعتباره مسقط أنواره ومرآة لهذه الأنوار.
٤ ـ (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤))
[الرعد : ٤]
القطع الأسماء ، وتجاورها وجودها في الحيز العلمي فهي هناك منظومة في عقد لا يتميز اسم منها عن آخر.
وجنات الأعناب والزرع والنخيل إشعاع الأسماء ، وهي مذ صدر الموجود عن الوجود الحق مشعة ، وإشعاعها يكون عن طريق الفكر نفسه ، فانظر إلى هذه الآية الوجودية القاهرة ما أعظمها وانظر إلى الله أين هو.
وقوله : (وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) يعني الهرم الأسمائي الذي يمثل الاسم العليم ذروته ، ثم تتلوه أسماء الصفات فأسماء الأفعال. وترى هذه الأسماء فاعلة منفعلة ، خارجة داخلة ، دائرة في حركة لولبية لا أول لها من آخر ، وهذه الحركة هي ما تراه العين في العالم الخارجي الذي لا يكف عن الحركة ولا يتوقف ، ولهذا وصف الله سبحانه الفاعل القاهر نفسه في موضع آخر قائلا : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما) [البقرة : ٢٥٥].
٥ ـ (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٥))
[الرعد : ٥]
التراب والخلق الجديد إشارة إلى الملحدين القائلين إننا منها وإليها وهي الأرض ، وهذا صحيح باعتبار النفس الجزئية في تعينها ، وتعينها دماغها وآلاته في الجسم .. ولكن تبقى صلة النفس الجزئية بالنفس الكلية والروح ، فمنهما المدد ، فلئن كان الإنسان ترابيا من جهة فهو روحاني نوراني خالد من جهة الروح.
والخلق الجديد إشارة إلى المدد من اسميه تعالى الحي القيوم وهذا المدد دائم متجدد مع تجدد الأنفاس ، وهذا معنى القيومية إذ يقوم به كل شيء ومن دونه لا يقوم ، فلا انفصال للخلق عن الحق ، ولا قوة للعبد إلا بربه ، وهو من دونه سراب يباب.