وسمى سبحانه هذا القهر مكرا وضربه مثلا. فالكافرون ساجدون وهم لا يشعرون ، ولهذا كان سجودهم كرها. وقضية كون الجميع في القبضة هي التي أثارت الخلاف بين جماعة السنة والمعتزلة ، فالمعتزلة رفعوا شعار الحرية المطلقة التي تعد خروجا على الإرادة الكونية الكلية ، وكان ما وقع لأحد علماء المعتزلة وهو عمرو بن عبيد مع أحد المجوس سببا في ارتداده عن الإعتزال والرجوع إلى عقيدة أهل السنة القائلة بمبدأ الفعل لله والكسب للعبد ، قال ابن عبيد : ما ألزمني أحد مثل ما ألزمني مجوسي كان معي في سفينة ، فقلت له : لم لا تسلم؟ قال : لأن الله تعالى لم يرد إسلامي ، فإذا أراد إسلامي أسلمت ، فقلت : إن الله تعالى يريد إسلامك ولكن الشياطين لا يتركونك ؛ فقال فأنا أكون مع الشريك الأغلب.
فإذا كان الشيطان قد خرج على الله بغير مشيئته فالنتيجة أن الشيطان صار إلها آخر ، بل كل صاحب أنا يصبح إلها أيضا والنتيجة أن الأرض والسماء تمتلآن بالآلهة ، ويذهب كل إله بما خلق ، وهذا مخالف لعقيدة التوحيد القائلة : إن الله هو الله في السموات والأرض ، وإنه لا إله إلا الله. قال جلال الدين الرومي : تارة ترسم بالوشي صورة الشيطان وتارة صورة آدم ، وليس لأحد قوة تجعله يحرك يدا للدفاع ولا أن ينبس بكلمة عن النفع والضر.
١٧ ـ (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ (١٧))
[الرعد : ١٧]
قلنا الماء العلم ، والأودية القلوب التي في الصدور ، وقدر الأودية سعة القلوب ، ولكل قلب سعة حددها الله أزلا عن طريق الكليات ، ونفذها قدرا عند نفخ الروح في الجنين ، وهذه الحقيقة أدركها اسبينوزا الهولندي الموحد في نظرته إلى الوجود الذي يتخذ كل مخلوق فيه مكانته الطبعية له. وكنا قد تحدثنا عن نظام التوازن البيئي الطبيعي والحيواني ، ونضيف والإنساني أيضا. فليست القضية قضية جبر واختيار ، ففي ميدان التوحيد تتجاوز الإرادة الدينية أفقها وفلكها لتصبح إرادة كونية خلاقة مبدعة خلقت كل شيء بقدر.
والمثل المضروب في الآية يفسر كيف أن كل نظرة تغفل التوحيد الجامع وكون الوجود وحدة لا تقبل التجزيء ، إنما هي مثل السيل يحتمل الزبد ، فلا حقيقة سوى حقيقة التوحيد ، وتثبت العلوم الحديثة في جميع المجالات وجود هذه الوحدة الجامعة. وما القوانين العلمية المكتشفة والمعتمدة سوى نتاج كشف هذه الوحدة.
والزبد الذي يذهب جفاء محاولات الفلاسفة والعلماء رد الوجود إلى مبدأ المصادفة ، وكون الطبيعة هي الخالقة ، مع محاولة إيجاد نظام وضعي سعيا لحل المشاكل الإجتماعية ،