فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤))
[الحجر : ٣١ ، ٣٤]
إبليس كان رئيس الملائكة أي رئيسا للمعقولات الكلية الإلهية ، وبهذا كان إبليس أقرب الخلق إلى الحق ، فلما خلق الله آدم رفض إبليس السجود له باعتباره من النار ، وباعتبار آدم من طين ، أي باعتبار إبليس شفافا لطيفا كما فسرنا نار السموم من قبل ، وباعتبار آدم مخلوقا جمع بين الكثافة والشفافية ، والشفاف اللطيف أفضل من المظلم الكثيف هكذا اعتقد إبليس ، ولكن كان لله اعتقاد آخر ، فالشفافية ذاتها لا قيمة لها من دون الكثافة ، ونار بلا دخان العناصر ليست نارا أو تكون نارا بالقوة إن صح القول ، فآدم وإن كان مخلوقا من تراب إلا أنه مصطفى ليسمع الإلهام والوحي ويكون مظهرا للحق ، فعن طريق آدم أمكن إخراج ما في خزائن الجود الإلهي ونشر الصفات والأسماء ، ولو لا آدم لظلت هذه الكنوز من العلوم مطوية حكمها حكم العدم.
فما قيمة الصفة إن لم تظهر بالموصوف ، وأين تكون إن لم يكن؟ صحيح أن منطق إبليس سليم ، ولكن العبرة بالفعل والنتيجة ، والنتيجة أن الله حقق قصده من الخلق كما جاء في الحديث القدسي : (كنت كنزا مخفيا فأردت أن أعرف فخلقت الخلق فبي عرفوني) ، ولهذا رفع الله آدم فوق الملائكة أي فوق المقولات العقلية الخالصة ، وأمرهم بالسجود له.
وللسجود لطيفة وهي علاقة العلة بالمعلول ، وقد عالجت الفلاسفة والصوفية هذه العلاقة قائلين : لو لا معلولية المعلول ما كان لعلية العلة أن تتحقق ، وبهذا تكون معلولية المعلول علة لعلية العلة وهذا هو بالتحديد سبب تفضيل آدم الجامع بين الصفة والموصوف على الصفات نفسها.
٣٥ ، ٤٠ ـ (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠))
[الحجر : ٣٥ ، ٤٠]
حدد أجل اللعنة بحلول يوم الدين ، وهو يوم القيامة الصغرى والكبرى ، وهو عند الصوفية يوم الكشف واليقين ، وعندئذ ترفع اللعنة لأن الله رحمن رحيم ، ولأن للشيطان دورا قضى عليه أن يمثله بمشيئة الحق ، وكنا قد وصفنا هذا الدور بالتحريك ، والتحريك التضاد والتناقض ، فبعد أن كان إبليس يمثل صاحب أسماء الجمال اختاره الحق ليمثل أسماء الجلال والقهر ، فكانت النتيجة أن إبليس جعل يوسوس في قلب آدم ، والوسوسة خفية القصد منها تنبيه قلب ابن آدم عن طريق ارتكاب الخطيئة ، والخطيئة باب الندم ، والندم باب التوبة ، فلو لا الخطيئة ما انتبه ابن آدم ، ولا فكر في الله وفي الهجرة إليه ، وهكذا نجد أن دور إبليس إيجابي وإن بدا