جاءه لم يجد شيئا والمقبل على اللذات مقبل على ما يظنه حقيقة ، ولكن الحقيقة براء من عالم اللذات الذي قوامه العطش والشرب وعدم الارتواء ، فمثل ناهل اللذات كشارب ماء البحر لا يزيده شربه إلا عطشا ، ويقال إن فلسفة دون جوان كانت تقوم على إمساك ساعة اللذة الهاربة ، وأن شدة إقباله على النساء كانت محاولة الظفر بتلك اللذة على نحو دائم في حين كانت اللذة تفلت منه كماء يتسرب من بين الأصابع ، أو كما تتسرب الرمال ، فاللذة لا تدخل في فلك الكليات ، بل هي تابعة للعالم المحسوس ، وهي والحس قرينان وتوأمان لا ينفصلان ، ولما كان هيراقليطس قد وصف هذا العالم بأنه يسيل ، وأن الإنسان لا ينزل في ماء النهر مرتين لأن الماء يتغير باستمرار ، وأن سمة الحس التبدل ، كانت النتيجة أن اللذة لا تلتقي بالكلي الثابت الدائم الأزلي الذي لا يغيره الزمان والمكان.
٩٠ ، ٩٣ ـ (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣))
[الحجر : ٩٠ ، ٩٣]
قوله سبحانه : (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١)) يعني اليهود والنصارى الذين قسموا القرآن قسمين قسما مقبولا وقسما غير مقبول ، فما وافق هواهم قبلوه ، وما خالفه رفضوه ، والقرآن وحدة جامعة منزلة من حقيقة أم الكتاب التي لا تقبل التجزئة والانقسام.
٩٤ ، ٩٦ ـ (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦))
[الحجر : ٩٤ ، ٩٦]
الصدع الوصول إلى مقام العبدية الذي يلي مقام العبودية حيث يصير الإنسان عبدا لله مأمورا ليس له من أمره شيء ، وعليه تنفيذ كل ما أمره به ربه ، كذلك رأينا وصفا لهذا الإنسان في قصة العبد الصالح الذي لقيه موسى عند مجمع البحرين.
والعبد أمة الله كيفما وجهه توجه ، لا يستطيع مخالفة ولا ترددا ولا نكوصا ، ونجد حياة النبي بعد بلوغه هذا المقام تنفيذا لأمر الله الذي وصفه سبحانه بالصدع.
٩٧ ، ٩٩ ـ (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩))
[الحجر : ٩٧ ، ٩٩]
ضيق الصدر سببه معرفة النبي الذوقية الكلية ، والتي يود بسببها أن يهدي الناس إليها ، وتكون النتيجة أن كثيرا من الناس يعرضون ، ويجعلون أصابعهم في آذانهم ويستهزئون ، وسبب الضيق كون العبد في مقام المكاشفة قبل المشاهدة ، والمكاشفة كشف الصفات وحقيقة