لا الكبر الذي يمس الإنسان العادي ، وللأمر رقيقة ، ذلك أن بلوغ هذا العمر الذي هو لا عمر يتبعه جهل هو لا جهل أو هو الحيرة المعروفة أيضا لدى الصوفية.
فتجاوز طور العقل العادي يسقط من هذا العقل علمه الذي جمعه في رحلته في عالم العيان ، فالمعادلات العقلية تتحول إلى معادلات روحية ، ولمعادلات الروح منطق هو لا منطق ، أو هو منطق يغاير منطق الفلاسفة ، أو يغاير على وجه التحديد ، منطق أرسطو الشهير.
فأن يجد الإنسان نفسه جزءا من الذات الكبرى ، أي أن تصير الأنا الجزئية أنا خالصة ، وأن يرى المكاشف ويتحقق أنه شعاع من النور الإلهي ، ثم أن يجد نفسه حبيس عوالم المادة لا يستطيع منها فكاكا ، ثم أن يجد أن الأنا الجزئية الطالبة للمعلومات قد صارت هي مصدر المعلومات ، وأن يرى الطالب هو المطلوب والسامع هو المسموع والجاهل هو العليم الحكيم ، وأن يرى البداية هي النهاية ، والنهاية الرجوع إلى البداية كما قال الجنيد ، وأن يرى الناس أشباحا تملأ عالم العيان ، وأن يرى السماء قد أطبقت على الأرض ، وأن يرى الجنان توحدت في جنة عالية هي جنة العلم ، فهذا كله مبعث الحيرة التي سميت حيرة العارفين.
والآية أوجزت هذا الحدث الإشراقي العرفاني الفذ إذ وصفت أعلامه بأنهم قد عادوا جاهلين بعد أن كانوا عالمين ، أي أنهم قد أيقنوا بأن ما تعلموه وعلموه عن طريق الفكر لا قيمة له ما دامت هناك بعد ينابيع العلم اللدني التي تعلم الإنسان ما لم يعلم ، قال صلىاللهعليهوسلم : (من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم).
٧١ ـ (وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٧١))
[النحل : ٧١]
تحدثت الآية عن الفضل الإلهي وتفضيل العارفين على الجاهلين ، وتفضيل ذوي البصيرة المنورة على ذوي الفكر والحواس ، قال محمد إقبال ترى فلاسفة بالألوف ورؤسهم مطمورة ، وصاحب الوحي وحده يتحرك ورأسه مرفوع.
فالرزق هنا إلهي هو العلم الإلهي الذي خص الله به آحاد أفراد من الخلق ، فعلمهم ، وأدبهم ، ورفعهم فوق الناس درجات كما حدث للنبي صلىاللهعليهوسلم الذي كان رجلا عاديا يتجر في مال زوجه خديجة ، فإذا هو بين عشية وضحاها يصبح نبيا موحى إليه ، قد أنزلت عليه رسالة ، وتبوأ مكانة ظلت تتوطد مع مر السنين حتى زماننا حيث احتل مكانة الرجل الأول بين المائة الأوائل في التاريخ.
٧٢ ـ (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (٧٢))
[النحل : ٧٢]