حق في أن يفعل ما يشاء ، وحريته هذه لا تحدها مقولة الخير والشر ، لأن لله الخير والشر ، وللخليفة بالتالي ما لربه ، وقولنا : العبد الحر له لطيفة ، ذلك أن هذا العبد عبد لله ، ومن كان عبدا لله فلا إرادة له ولا مشيئة ولا رغبة ، فهو موهوب لرب ومصطنع ومصطفى كيفما يوجهه الله يتوجه ، وما يأمره به يفعله ، وهذا وجه العبدية لهذا العبد ، أما الوجه الآخر وهو وجه الحرية فيمثل في كون هذا العبد ليس إنسانا عاديا ، فهو يعرف ما لا يعرف الاخرون ، وله قصد غير مقاصد الآخرين ، وقصده إلهي ذو مرام ، وكثيرا ما تكون المقاصد غامضة لا يدركها إلا العارفون ، ولهذا جاء في الآية في وصف هذا العبد : إنه ينفق من رزقه الإلهي سرا وجهرا ... أي يسلك سلوكا محيرا قد يفهمه الناس ، وقد يدق عن أذهانهم فهمه ، وهذا ما نراه في قصة لقاء موسى العبد الصالح الذي قال له : (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) [الكهف : ٦٨].
٧٦ ـ (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦))
[النحل : ٧٦]
قوله سبحانه : (أَحَدُهُما أَبْكَمُ ،) يذكر بقولنا : إن العارف يرى الناس عند المكاشفة صامتين ناطقين ... وللأمر رقيقة ، ذلك أن الإنسان يفكر أولا ثم ينطق ، ولما كان الفكر لله باعتبار الإلهام والنجوى ، فالنتيجة أن الملهم يلهم أولا ، ثم يفعل الإنسان ، فالإنسان إذن أبكم لأنه لا ينطق بذاته بل بغيره ، وهو عاجز لا يقدر على شيء كما جاء في الآية لأنه لا يستطيع أن يفعل إلا ما يلهم ، وتبع هذا في الآية وصف هذا الإنسان بأنه كل على مولاه ، والكل ثقيل ، والثقيل من الحمولة ، فالإنسان محمول على الله باعتبار الله الملهم وباعتبار الإنسان حامل الله لأنه آلته ووسيلته للظهور والفعل.
أما الإنسان الآخر ، أي العبد الحر الذي تحدثنا عنه ، وهو الإنسان الكامل الذي ورد ذكره عند ابن عربي وعبد الكريم الجيلي ، وهو تعين النور المحمدي العالم بالخير والشر وبتوحيدهما والفاعل بهما وعن طريقهما ، والعارف بالحقائق الإلهية ، فهذا الإنسان على صراط مستقيم ، وهو التنزيل من رب العالمين والمبعوث رحمة للعالمين ، وهو المجدد والمعلم المتجسد دوريا في كل قرن لينطق بالله وعن الله ولله.
٧٧ ـ (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧))
[النحل : ٧٧]
الساعة ساعتان الصغرى والكبرى ، وهي بدء يوم القيامة التي هي قيامتان صغرى وكبرى