بالضرورة ، وهو يجاهد نفسه الحيوانية أولا ، ويجاهد العالم ثانيا لأن في العالم تعينات الأسماء المزدوجة والمتقابلة.
والفتنة هبوط الاسم العليم نفسه من لدن الحضرة العلمية ، فمثله كمثل فرخ في عشه دفعته أمه دفعا ليتعلم الطيران ، فلو لا الشر ما كان الجهاد ، ولو لا الجهاد ما كان العلم ، ولو لا العلم ما استوى الاسم العليم على عرش العلم ، فالهبوط والعروج دورة علمية لكي يعرف الإنسان ربه ، ويعبده من ثم حق عبادته ، ويفهم معنى لا إله إلا الله.
١١١ ـ (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١١١))
[النحل : ١١١]
في قوله سبحانه : (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) رقيقة ، ذلك لأن النفس نفسان حزئية وكلية ترابية وروحية ... وتقع المجادلة حين تجادل النفس الروحية عن النفس الترابية قائلة : إنها ما فعلت إلا ما ألهمته من فجور وتقوى ، وعن ابن عباس : ألهم المؤمن التقي تقواه ، وألهم الفاجر فجوره ، ثم تلا قوله تعالى : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (٨)) [الشمس : ٧ ، ٨] ، فالفجور والتقوى من التضاد ، والتضاد للتعليم ، والنتيجة شمول الرحمة ، وهو أمر أشارت إليه الآية السابقة قائلة : (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).
وقوله : (وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) يعني عودة الفرع إلى الأصل فلا نزاع هناك ، فإن كانت النفس ميسرة لليسرى فاليسر طريقها ، وإن كانت ميسرة للعسرى فالعسر طريقها ولا نزاع والمنازعة وقعت للتفريق بين طبيعة الأسماء نفسها لتمييز المعدن الثمين وإخراجه وفرزه عن المعادن الرخصية ، والعملية كما أسلفنا القول يقتضيها العلم والتعليم.
١١٢ ـ (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢))
[النحل : ١١٢]
القرية كما أسلفنا البدن ، وهي هنا بخاصة مركز البدن ، وجوهره أي الفكر ، والرزق ما يحصله الفكر عن طريق الحواس من انطباعات حسية تنتهي إلى التجريد العقلي ، فلما أتم الفكر هذه الدورة التعليمة أنكر مصادر المعقولات أو الأفكار القبلية ، وقال : إن ما حصله هو من عمله وحده وبجهده ولا وجود لمعقولات خارج الفكر وسابقة على الفكر ، وليس ثم إلا محسوسات وإنسان يواجه هذه المحسوسات ويفكر ، فما بقي إلا الطبيعة والإنسان ، وهذا هو الكفر لأن الكفر ستر.