ثمة دين تقليدي يتوارثه الأبناء عن الآباء فالأجداد ، ودين تحقيقي هو ما وصفه سبحانه بقوله : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) [الحجرات : ١٤] ، أي أن دين التحقيق هو التحقيق ، أي نفوذ النور الإلهي إلى القلب حتى يصبح مؤمنا ، والآية موجهة إلى أصحاب الدين التقليدي الذين قد يفعلون السوء بجهالة ، وذلك بسبب دينهم التقليدي نفسه ، وسميت هذه الظاهرة في التاريخ التعصب الديني ، والمتعصب قد يظن أنه يفعل الصحيح والمطلوب في حين يكون حاله كالأعراب الذين أسلموا ، ولما يدخل الإيمان في قلوبهم ، والمهم القول إن ثمة فريقا من الناس يفعلون السوء عن نية غير سيئة ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، فهؤلاء ينقذهم الله بأن ينقلهم من دين التقليد إلى دين التحقيق.
١٢٠ ـ (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠))
[النحل : ١٢٠]
كل نبي مذكور في القرآن هو بمثابة مقام من المقامات التي يمكن أن يبلغها الإنسان بالجهد والجهاد ، إذا كان من الذين سبقت لهم من الله الحسنى ، وإبراهيم صاحب مقام ، ولهذا فمن الممكن أن يبلغ المسلم المؤمن المحسن مقام إبراهيم ، ولهذا جعل الله مقام إبراهيم بجوار الكعبة ، وله لطيفة ... ففي الآية أن إبراهيم كان أمة ، والأمة الجمع ، وهي كلفظ وكلمة مفرد كأن تقول جيش واحد وعلم واحد وأمة واحدة ، فمقام إبراهيم يشير إلى إمكان بلوغ مقام الجمع حيث تبلغ سعة القلب درجة تمكنه من احتواء جمعية الأسماء كما تحقق ذلك لآدم من قبل ، ويقال لمن بلغ هذا المقام إنسان النوع أو الشخص النوعي ، أي الإنسان الذي يمثل النوع العام كما يكون العلم شعار الأمة ورمزها ، فإبراهيم لما بلغ مقام الجمع صار أمة ، أي جمع الأسماء كلها عنده فصار ممثلا للأسماء كلها لعلمه بحقيقتها كما فعل آدم.
ولما بلغ إبراهيم هذا المقام صار قانتا لله أي مطيعا ، كما صار حنيفا أي مائلا إلى الدين القيم ، والإشارة إلى صفة الإنسان الكامل الذي علم اليقين كما علمه رسول الله صلىاللهعليهوسلم القائل : (تعلموا اليقين فإني أتعلمه) ... وتعلمه يكون بأن يرى الإنسان الأمة الوجود وحدة صادرة عن واحد ، لا تضاد فيه ولا تناقض ، ويضرب لهذا مثلا القول إن الحمل قد نام في حضن الذئب ، والإشارة إلى نفي التضاد والصراع والتناقض ، ولهذا كنا فسرنا من قبل كيف صارت النار بردا وسلاما على إبراهيم ، ولهذا وصف سبحانه أولياءه المتقين الذين أتاهم اليقين قائلا : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٦٢) [يونس : ٦٢] ، فمن بلغ مقام إبراهيم ، أي مقام الجمع ، علا فوق أفق الخير والشر ، وصار الخير والشر له منظارا به يرى العالم المقسم بين خير وشر.