المبسوط في موضع البسط ، والمقصور في موضع القصر ، وهجر الغريب الوحشي ورغب عن الهجين السوقي ، فلم ينطق إلا عن ميراث حكمة ، ولم يتكلم إلا بكلام حف بالعصمة ، وشيد بالتأكيد ، ويسر بالتوفيق ، وألقى الله عليه المحبة وغشاه بالقبول ، فجمع له بين المهابة والحلاوة وبين حسن الإفهام والإيجاز ، ولم تسقط له كلمة ، ولا زلت به قدم ، بل يبذ الخطب الطوال بالكلام القصير ، ولا يلتمس إسكات الخصم ، ولا يحتج إلا بالصدق ، ولا يهمز ، ولا يلمز ، ولا يبطئ ، ولا يعجل ، ولا يسهب ، ولا يحصر ، وما سمع كلام قط أعم نفعا ولا أصدق لفظا ، ولا أعدل وزنا ، ولا أجمل مذهبا ، ولا أكرم مطلبا ، ولا أحسن موقعا ، ولا أسهل مخرجا من كلامه صلىاللهعليهوسلم.
ثم عرج بالنبي صلىاللهعليهوسلم إلى السماء السادسة فلقي موسى عليهالسلام ، وموسى هو الذي أمر بأن يلقي عصاه فإذا هي حية تسعى ، والإشارة إلى قدرة النبي الذي بلغ حقيقته ذاتها الممثلة في الروح ، والروح هو الفاعل ، والنفس فاعلة بواسطة الروح ، فهي تبدو فاعلة لكنها منفعلة أو أنها فاعلة بواسطة ، وهذا ما أشارت إليه قصة موسى وفرعون والسحرة الذين رأوا من صاحب القدرة الحقيقية لا المحدثة فآمنوا لإله موسى لا لفرعون.
ثم عرج بالنبي صلىاللهعليهوسلم إلى السماء السابعة ، فلقى إبراهيم عليهالسلام مستندا إلى البيت المعمور ، وإذا سبعون ألف ملك يدخلون هذا البيت كل يوم فلا يعودون إليه ، والإشارة إلى المعقولات الممثلة في الملائكة والتي تعمر قلب الإنسان وتفعل فيه فعل الجند في الميدان ، فإذا انتقل صاحب الكشف من المكاشفة ، وهو مقام موسى ، إلى المشاهدة ، وهو مقام إبراهيم ، فنيت المعقولات وتلاشت عند ما طلعت شمس الواحد الأحد ، والأحاديث الشريفة تقول إن قلب الإنسان في القبضة الإلهية ، وإن المعقولات الفاعلة فيه بشقيها الإيجابي والسلبي ، فاعلة بإذن إلهي كما تفعل النفس في الجسم بواسطة قوى الروح ، فعند الوصول إلى الذات الصرفة التي سماها النبي صلىاللهعليهوسلم العماء لا يوجد موجود إلا الموجود الحقيقي القديم الأزلي الباقي ، ولهذا سمي هذا المقام مشاهدة ، أي أن العارج لا يرى فيه إلا الله وحده ، ويفهم معنى لا إله إلا الله ، وقوله سبحانه : (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) [الزّمر : ٦٩] ، وقوله : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر : ١٦] ، وقوله : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) [الرحمن : ٢٦ ، ٢٧]. وعند ما وصل النبي صلىاللهعليهوسلم مقام إبراهيم الذي تجاوز الحجب المتمثلة بالشمس والقمر والنجوم كما ورد في القصة رأى الله جهارا وعينا وعيانا ، وأنشد الحلاج :
وأي الأرض تخلو منك حتى |
|
تعالوا يطلبونك في السماء؟ |
تراهم ينظرون إليك جهرا |
|
وهم لا يبصرون من العماء |