بالتجربة والمحك ، فيقال فلان أمين ، وفلان كريم ، وفلان حسن الشمائل ، كما يقال فلان فاجر أو خائن أو سارق ، وعلى أساس هذه المعرفة التجريبية يعامل الناس بعضهم بعضا ، فلو لا أن الله ألزم كل إنسان بطابع معين لما عرف الناس بعضهم بعضا ، ولعمت الفوضى ، ولطغى الشر ، ولصارت الحياة جحيما وغابا العيش فيها للأقوى ، والويل للضعيف.
١٤ ـ (اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (١٤))
[الإسراء : ١٤]
قراءة الكتاب اطلاع الإنسان على صفته وهو في النزع إذا ما جاء أجله ، واطلاع المكاشف على سر القدر وأصل الطبع كما قال الإمام الغزالي وأن كل إلى طبعه راجع وصائر ، وإلى حقيقة النفس هذه أشارت الآية قائلة : (كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ،) فثمة صلة بين النفس والقلب ، وثمة جسر بينهما هو جسر الأسماء الذي نصب الله الوجود عليه وجعل طرفيه العدم.
١٥ ـ (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (١٥))
[الإسراء : ١٥]
قوله : (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ،) اتباع الموصوف صفته ، فالآية تتمة لما جاء في الآية السابقة والقائلة : (كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ،) وهذا ما تراه الصوفية عند الكشف كما قدمنا القول وكذلك في الضلال ، فالأمر قائم بين علة ومعلول وصفة وموصوف وعلى هذا فالنظام الكوني الطبيعي المبتدئ في الأجرام والأرض وما عليها من معدن ونبات وحيوان ينسحب على عالم الإنسان نفسه ، وهذا ما عرف في الفلسفة بقانون السببية ، وإليه أشار كانط في فلسفته ، وحار في كيفية تفسير حرية الإنسان التي تتعارض مع هذا القانون والذي يتحرك كل متحرك فيه وفق قانون معين وبمقدار محدد ، حتى أنه أعلن في النهاية عجزه عن تفسير الجمع بين قانون السببية الحاكم وكون الإنسان حرا ...
أما الصوفية فلقد نقلوا أحجار شطرنج الوجود نقلا آخر بعد أن اطلعوا كشفا وعلموا يقينا ما قاله الغزالي : أن كل إنسان إلى طبعه راجع وصائر ، وإن الإنسان مجبور في عين اختياره ، فهو مضطر في صورة مختار ولا يعلم.
١٦ ـ (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (١٦))
[الإسراء : ١٦]
قلنا : القرية البدن ، والآية تشير إلى حكم الجبروت الذي هو القاهر والحاكم ولا راد لقضائه والذي يفعل ما يشاء ، قال الإمام الأشعري : الله قادر على كل شيء ، ولا يقع عمل أو حركة إلا بإرادته.