والتبذير صرف المال في غير الحق والتصرف فيه عن هوى ، ولو أن المال أنفق كله مثلا كرما أو إطعاما في يوم ذي مسغبة أو فك رقبة لا نقلب التبذير إلى خلة نبوية كما قيل عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم إنه لم يكن يدخر مالا لغد ، ويعطي عطاء من لا يخاف الفقر ، فتعريف التبذير الاستجابة لطغيان الأنا وهواها لدى الخروج على حدود الله.
٢٨ ـ (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (٢٨))
[الإسراء : ٢٨]
تؤكد الآية ما قلناه في الخلة النبوية ، وكان النبي يجد نفسه أحيانا لا يملك ما يعطيه للسائل ، ففسح الله له ، وقال إن الكلمة الطيبة صدقة ، وإنها مثل العطاء المادي ، ولا تقل عنه عطاء ، ولئن سأل سائل كريما كان ذا عسرة فلقي منه البشاشة والاعتذار الحسن لأثر ذلك فيه وسري عنه وعذره.
٢٩ ـ (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩))
[الإسراء : ٢٩]
تحدد الآية مقدار العطاء ، لأن النبي كما ذكرنا كان يعطي حتى لا يبقى له ولأهله شيئا ، والإسلام دين وسط ، أعطى كل ذي حق حقه ، فللنفس حق ، وللأهل حق ، وللولد حق ، وللقريب حق ، وللجار حق ، والصديق حق ، فلا يجوز أن يطغى حق حقا ، وهذه معادلة خلقية تريح الكرماء الذين لا يستطيعون أحيانا أن يعطوا كما فعل حاتم طيء يوما إذ نحر ناقته ليطعم قوما جياعا.
٣٠ ـ (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٣٠))
[الإسراء : ٣٠]
كنا قد تحدثنا عن الرزق الذي هو رزق باطني ورزق ظاهري ، كما تحدثنا عن حكمة الله التي تجعل الشيء في موضعه ، والتي بنت الوجود وفق معادلة تجعل الحياة ممكنة ، وتفاوت الرزق الظاهري ضرورة لعمران الوجود ، فالأغنياء يخدمون الفقراء بأموالهم ، والفقراء يخدمون بأعمالهم ، والأذكياء يخدمون الناس بتخطيطهم ، وللأغبياء دور يمثلونه في مسرحية الحياة ، وهذا ما دفع الفيلسوف اسبينوزا إلى القول : إن الله يخلق جميع أشكال الحياة ، وقد يتساءل الإنسان عن سبب خلق البلهاء ، والبلهاء قال فيهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم : (إنهم أكثر أهل الجنة) ... فثمة أسرار في الوجود عرف الإنسان بعضها وجهل معظمها ، وما تزال العلماء حتى هذه الساعة يكتشفون المزيد من هذه الأسرار التي تظل أعناقهم لها خاضعين ... ولقد حاربت العلماء الأمريكيون حشرة ، وقضوا عليها ، ثم عادوا إليها ، وأعادوها إلى الأشجار ثانية لما اكتشفوا دورها في القضاء على الديدان والحشرات الضارة.