من الله الوحي والجواب يكون كل ما يأمر به عين الصواب ، أما العقل البشري فسبيله التجربة أولا ، وقبول الحدس ثانيا ، ومن هذا وذاك ينمو العقل ويكتمل ، أما العقل الإلهي فهو كامل عليم حكيم خبير.
٣٧ ، ٣٨ ـ (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (٣٧) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٣٨))
[الإسراء : ٣٧ ، ٣٨]
التحذير أيضا من الأنا وطغيانها ودعواها ملكية الوجود الجزئي ، وأخوف ما خوفت منه الصوفية الأنا التي هي أعظم حجاب وأكثف حجاب ، وفي الأمثال : ما اتضع عبد الله إلا رفعه ، فبقدر ما ينفي الإنسان نفسه بقدر ما يثبت الوجود الإلهي فيه ، قال العارف بالله أرسلان الدمشقي : كلك شرك خفي.
٣٩ ـ (ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (٣٩))
[الإسراء : ٣٩]
التشديد على التحذير من الأنا والفكر الموصوفين بأنهما إله آخر ، والمسألة كانت سبب الخلاف بين الإمام الغزالي وابن رشد ، أو بين الصوفية والفلسفة ، ففي حين ألح الغزالي على ضرورة إضعاف الأنا ، وإبعاد الفكر ، وسلوك الطريق الأخلاقي وصولا إلى الله والحقيقة ، جعل ابن رشد يدافع عن الفكر واتباع سبيل المنطق ولقد ظلت نار الحرب مشتعلة بين الفريقين والمدرستين طوال قرون ، حتى قام كانط في القرن التاسع عشر ، وأعلن رأيه الشهير في كتابيه «نقد العقل الخالص» و «نقد العقل العملي» ، وأبان أن الحقيقة لا تعرف عن طريق العقل ، وأن هناك طريقا واحدا سالكا لمعرفتها هو الطريق الأخلاقي ، لأن الأخلاق بوابة الغيب ، ما دام القانون الأخلاقي الذاتي يكشف عن وجود قانون كلي وجودي يهدي الإنسان سواء السبيل ، وينير طريقه في ظلمات الحياة ، والقانون الأخلاقي وجه من وجوه الحقيقة الكلية المتحجبة وراء الغيب والتي لا تسفر إلا لمن سلك طريق الأخلاق والدين.
٤٠ ـ (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (٤٠))
[الإسراء : ٤٠]
الإنسانية كلها أنوثة حتى وإن ظهرت الذكورة فيها فاعلة ، فما دامت قوى الإنسان ليست له ، وهي وديعة عنده ، ممنوحة له فما يقوم به من فعل هو من قبيل النيابة ، ولهذا قالت الفلاسفة بوجود الجوهر القائم بذاته ، والعرض أو الممكن القائم بغيره ، ومادام الإنسان جاء من سواه ، وربى في رحم الأم ، وخرج إلى الحياة ليمارس قوى وجدها بالمصادفة لديه ،