الآيتان توضحان سير عملية الحوار الذاتي وذلك بكشف مدى الهيمنة الإلهية على القلب ، فالحاصب من الحصباء أي الرمي بالحصى التي هي الأفكار الموسوسة السود ، والريح ريح الأهواء والغضب متى ثارت كان الإنسان أمامها ريشة في مهب الريح في الفلاة كما قال رسول الله ، والعملية تشير إلى كيفية كون الإنسان في القبضة ، وأن الأفكار سودا كانت أم بيضا ، هي لله مليك الفكر والفكر ، وأن القلب هو ميدان هذه الأفكار التي تصطرع أبدا.
٧٠ ـ (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (٧٠))
[الإسراء : ٧٠]
تكريم بني آدم اصطفاؤهم للإلهام والنجوى والمكالمة أي تخصيصهم بالذات الناطقة الشريفة التي جعلت فيلسوفا يعرف الإنسان قائلا : إنه حيوان ناطق ، فكل المخلوقات تقاد بالغريزة إلا الإنسان الذي يقاد بالعقل ... فمن جهة هو عقل قابل ومن جهة أخرى هو عقل فاعل.
والحمل في البر والبحر حمل في عالمي الوجوب والإمكان أو الروح والمادة ، فمن جهة الوجوب فشطر الإنسان الواجب بذاته وهو الروح ، والروح نفخ إلهي ، ومن جهة الإمكان فشطر الإنسان الآخر خلق من تراب كما قال سبحانه في موضع آخر : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤)) [الرّحمن : ١٤] ، وقال صلىاللهعليهوسلم : (كلكم لآدم وآدم من تراب).
والرزق من الطيبات تعليم الإنسان بالإلهام والوحي كما قال سبحانه : (خَلَقَ الْإِنْسانَ* عَلَّمَهُ الْبَيانَ ،) (٤) وهو رزق خص به الإنسان أيضا من دون المخلوقات ، فالإنسان المخلوق العاقل الواعي المتعلم العالم الوحيد على هذه الأرض ، ولهذا كان رد هيغل على كانط الذي قال : إن النجوم فوق رأسه تملؤه إعجابا ، كان الرد : أن النجوم لا قيمة لها وهي بالقياس إلى عظمة الإنسان مثل طفح جلدي ، والإنسان هو المخلوق المهم الوحيد لأن فيه الروح.
٧١ ، ٧٢ ـ (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧١) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٧٢))
[الإسراء : ٧١ ، ٧٢]
من معاني الإمام الطريق فالناس على طرق شتى ، والطرق هي التي تسلكها الأسماء نفسها فلا خروج لأحد على طريقه ، ولهذا جاء في الآية أن الله يدعو الناس بإمامهم ، أي من طريقهم ، أي من الجهة التي يكونون فيها ، وهذا حاصل من باب حديث نجوى الاسم نفسه ، وإذا كان صاحب الاسم من النوع الجليل ، أي القاهر ، أي البعيد ، فهو بالضرورة أعمى لأنه يكون محجوب البصيرة ، ومن سلك طريقا مظلمة فكيف ينتهي إلى النور؟