ولقد أوتي موسى عليهالسلام كشف الفعل ، ولهذا جاء في قصته أنه أيد بعصا القدرة التي تفعل المعجزات ، أي أن القدرة الإلهية هي صاحبة الأمر والفعل ، وبعد فما عصا القدرة؟
في الفلسفة ثمة ذكر للتسع اللائي لهن الفعل الوجودي ، وقد ذكرها ابن عربي.
وجاء في التفسير أن الآيات التسع هن اليد والعصا والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ونقص الثمرات ، والإشارات كلها إلى أن الله لو رفع يده عن الوجود لتهاوى ونسف نسفا كما قلنا ، ولقد أدلى هيغل دلوه ، وضرب بسهمه ، فقال إن الكليات هن العالم الحقيقي ، وما العالم الحسي إلا وهم ، ومن قبله قال أفلاطون القول نفسه ، ضاربا مثلا الكهف الشهير ، والمهم أنك حين ترى إلى هذا الوجود العياني تجده مركبا من مادة وصورة كما قال أرسطو ، ومن فعل وانفعال كما قال اسبينوزا ليس في الطبيعة ، إلا طابع ومطبوع ... وهناك الزمان وصلته بالمكان والعكس بالعكس ، كما هناك صلة العالم الحسي بالعالم المعقول وسمي هذا القيام نسبة وإضافة ، فمن هذا التراكب ظهر العالم الظاهري ، ولقد علم موسى هذا كشفا لما تجلى له ربه بوادي نفسه المقدس وقال له ها أنذا ، بل إنه تجلى له نارا ، والمعنى يفيد نار العناصر ، أي أحد عناصر الوجود ... فموسى شاهد كشفا أن ليس في الوجود إلا الله ، وأنه عند ما ناجاه خلعه من نفسه ، واسترد نفسه منه ، فبقى موسى بلا موسى ، أو كما قال أبو يزيد البسطامي : انسلخت من بايزيدتي كما تنسلخ الحية من جلدها ، ثم نظرت فإذا أنا هو.
وموسى إشارة إلى القلب الذي وصل مقام الروح فواجه من ثم فرعون الذي هو إشارة إلى الفكر بنتائج هذه المكاشفات فكان جواب الفكر : إني لأظنك يا موسى مسحورا ، فما هذا الذي تقول وكيف يكون الله الوجود ، ويكون الوجود الله ، ولا يكون من ثم إلا الله موجودا؟ وكان رد موسى : لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر ، فكان جواب موسى : أن البصيرة وحدها هي التي تكشف ويكشف لها ، وأن نتيجة كشف البصيرة كشف الآيات التسع التي أشير إليها بالدم والقمل والجراد وما شابه.
١٠٣ ـ (فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (١٠٣))
[الإسراء : ١٠٣]
الاستفزاز من الأرض محاولة الفكاك من النفس المادية الترابية التي قال عنها أرسطو : إنها صورة الجسد ، فكل من يظل سجين نفسه يظل أبدا سجين التراب ، ولهذا قال صلىاللهعليهوسلم : (كلكم لآدم وآدم من تراب) .. وإلى هذه النهاية أشارت الآية قائلة : (فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً) فهذا الغرق هو من نوع الطوفان الذي طغى ، ولم ينج إلا نوح ومن معه من أزواج الكليات في الفلك المشحون بهذه الكليات.