البحرين ، والغلام رمز الولادة ، والإشارة إلى ولادة اليقين نفسه من ذات الإنسان ، ولهذا سمي الرجل والدا ، أي أنه يلد ، كما سميت الأم أيضا والدة ، فالوالدان يلدان ، وهما أيضا أبوان كما قال سبحانه : (وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً) [الكهف : ٨٢] ...
والإشارات إلى أن الإنسان نفسه يحمل ويلد ، وذلك لكونه قلبا متقلبا بين أبيه الروح الكلي وبين النفس الحيوانية ، فالإنسان خلق للولادة ، والولادة هي الأمانة التي قال فيها سبحانه : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) [الأحزاب : ٧٢] ، ولهذا كان الإنسان أعظم مخلوق وأشرف مخلوق ، وما رفعه الله درجة فوق الملائكة إلا لأنه اصطفى واصطنع للولادة ، فالإنسان تاج الوجود ، استودعه الله سره الذي هو جوهرة التاج والمعرفة الإلهية.
وقوله سبحانه : (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا ،) يعني أن يحيى خرج على دائرة الأسماء الوجودية نفسها لأنه ممثل اسمه تعالى الحي ، والاسم الحي تاج الأسماء وأولها كما جاء في وصف الصفات الإلهية السبع ، فالله هو الحي قبل أن يكون عليما ، وهو العليم قبل أن يكون قادرا ، وهو القادر قبل أن يكون سميعا بصيرا ... والملاحظ أن الفارق بين الله والإنسان ، أو بين الواجب والممكن هو كون الواجب بذاته موجودا بذاته أي حيا بذاته ، ولهذا قال الفارابي في وصفه سبحانه : به يكون تجوهره.
ويحيى ممثل هذا الاسم العظيم ، ولهذا لا يدرج اسمه تحت اسم آخر لكونه ممثل الاسم الأعظم.
٨ ـ (قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨))
[مريم : ٨]
تعجب القلب من أن يلد ، وقد سبق له أن أخرج المعقولات من المحسوسات ، وأعمل فكره واستنتج وحلل واستنبط ومع هذا فلقد ظل الغيب عنه مطويا ، فكيف يبلغ القلب فلكا آخر غير هذا الفلك الذي يسبح فيه الناس أجمعون؟
٩ ـ (قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩))
[مريم : ٩]
الجواب إلهي وهو أن الله الذي خلق الإنسان ولم يكن شيئا وهبه ما وهبه من إمكانات وصفات وقوى ، وهو القادر أيضا على أن يزيده علما إلى علمه ، وسيكون العلم من نفسه ذاتها ، قال جلال الدين الرومي : منا كان السؤال ومنا كان الجواب أيضا.