التوحيد ، ولهذا فالمعتكف الذي يسمع ضميره ، وقد طلع عليه من جانب التضاد يصاب بالهلع والذعر كما ذعر النبي صلىاللهعليهوسلم لما ظهر له جبريل وغطه ، وقال له : اقرأ ، فرجع إلى أهله قائلا : (زملوني زملوني).
١٩ ـ (قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩))
[مريم : ١٩]
قلنا : الغلام إشارة إلى الولادة المعنوية العلمية الجديدة ، فصوت الإلهام يبشر المراد بأن الغطاء قد كشف عنه ، وأن الحجاب قد رفع ، وأنه قرب من الحق وكلم نجيا.
٢٠ ـ (قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠))
[مريم : ٢٠]
تعجب القلب من هذه الولادة العلمية ، سيما وأنه استهلك واستنفد ما عنده من كليات مجردة جردها من المحسوسات ووظفها في سبيل التعلم ، فكيف يكون بعد علم أرسطو علم آخر؟
٢١ ، ٢٢ ـ (قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢))
[مريم : ٢١ ، ٢٢]
جواب الحق سبحانه بأنه على كل شيء قدير ، وفي مخاطبة الحق لزكريا في أول السورة جاء : (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) [الآية : ٩] ، فالذي أخرج الإنسان من بطن أمه ، شبه حيوان حتى عرف في الفلسفة بأن حيوان ناطق ، وسماه ابن عربي : الإنسان الحيوان ، والذي علم الإنسان ما لم يعلم حيث أخرجه من غاب الجهل وجعله إنسانا ورفعه فوق المخلوقات بل فوق الملائكة ، وذلك بما وهبه من العقل الذي هو أشرف وأعظم هبة إلهية للإنسان .. أو ليس الذي فعل هذا بقادر على أن يرفع الإنسان فوق درجته درجات ويجعله إنسانا إلهيا؟
٢٣ ـ (فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣))
[مريم : ٢٣]
النخلة قطوف المعقولات ، وهي عدة المحارب التي بها يحارب الحق الفكر ذا التجارب ، فالفكر بعد أن استنفد إمكاناته ، ووقف بباب الحق حيران أتاه الحق من حيث لا يحتسب وجعل له مخرجا ، والمدخل هو الكشف وهو ضربان كشف اليقظة وكشف المنام أما كشف المنام فمدخله قول أم المؤمنين عائشة : أول ما بدئ به النبي الرؤيا الصالحة ، وقوله صلىاللهعليهوسلم : (الرؤيا الصادقة وحي من الله) ، وقوله : (الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا رسول بعدي ولا نبي ، فشق ذلك على الناس فقال : لكن المبشرات ، فقالوا : يا رسول الله وما المبشرات؟ قال : رؤيا