زكريا قائلا : (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) [مريم : ٩] ، وكنا قد ذكرنا أن الشيئية نفسها صنع الله بل هي الله باعتبار تكثف نوره ، ولهذا فإن شيئية الإنسان هي الله أيضا باعتبار ظهوره ، ولهذا قلنا ما قلنا في الجسم الكلي الذي هو العالم الخارجي والجسم الجزئي أو الجسد الذي هو الإنسان ، وقلنا : إن كليهما منفصل عن النفس ، وأثبتنا هذا بالملاحظات المستخلصة من عملية استبطان نفسية كما فعلنا في كتابينا «الإنسان الكامل» و «الإنسان الكبير» ، فالإنسان الذي يظن نفسه شيئا ليس شيئا ، لا جسما ولا نفسا ولا قلبا ولا روحا ، ولهذا قال عارف : ليس حقيقة النفس إلا الروح ، وليس حقيقة الروح إلا الحق ، فاللاشيئية التي تحدث عنها الحق وذكر بها الإنسان تنسحب على الإنسان حتى بعد كونه شيئا ، ولهذا أجاب البسطامي لما سئل عن اسم الله الأعظم : هو لا إله إلا الله ، ولا تكون أنت هناك.
٦٨ ـ (فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨))
[مريم : ٦٨]
قلنا : جهنم هي البعد ، وأصلها كما قال ابن عربي : جهنام وهي بئر بعيدة القعر ، فالمبعدون أي غير الموحدين المقربين هم في جهنم ، فقوله سبحانه : (لَنُحْضِرَنَّهُمْ) لا يفيد معنى المستقبل فحسب ، بل ينسحب على الحاضر الذي يكون فيه الإنسان جاهلا ربه وغافلا عن وجوده.
٦٩ ـ (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (٦٩))
[مريم : ٦٩]
عتا تجرأ وظلم ، فكلما ازداد الإنسان تمسكا بأناه كلما عتا على الرحمن أكثر ، والملاحظ أن العتي كان اسمه على تعالى الرحمن لا على اسم له آخر كالرب أو الرحيم أو حتى الله ، ولهذا الورود لطيفة ، ذلك أن الوجود كله نتيجة كونه تعالى الرحمن ، إذ الرحمن اسم فاعل يفيد الشمول ، ولهذا قيل إن رحمة الرحمن عامة ورحمة الرحيم خاصة ، فالأولى تعم الخلق أجمعين ، والثانية تخص المؤمنين ، فخروج العاتي على الله سببه خروجه على اسمه الرحمن الذي أوجده وسواه وعدله وصوره ، ونفخ فيه من روحه ، وأخرجه من العدم بعد أن لم يكن شيئا ، ثم ظل يمده بقوى اسمه الحي وقوى اسمه القيوم ما دام حيا.
٧٠ ـ (ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (٧٠))
[مريم : ٧٠]
لعلمه سبحانه بأسمائه فهو عليم بتعيناتها حتى من قبل أن تتعين ، وعلى هذا الأساس من العلم خلق سبحانه الجنة وخلق أهلها ، وخلق النار وخلق أهلها من قبل خلق الخلق.
٧١ ، ٧٢ ـ (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (٧٢))
[مريم : ٧١ ، ٧٢]