إن لسان النبوة لا ينطق عن الهوى ، وهو وحي يوحى ، ولهذا سأل موسى ربه أن يحلل عقدة من لسانه ليفقه قومه قوله ، والله سبحانه آتى نبيه البيان والفصاحة وجوامع الكلم ليصيب المفصل ، ويكون ما يقوله وحيا صادرا عن القلب ، وما صدر عن القلب يقع في القلب كما يقول المثل.
٢٩ ، ٣٢ ـ (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩) هارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢))
[طه : ٢٩ ، ٣٢]
هارون إشارة إلى علم الحقيقة الذي يلي علم الشريعة وقلنا في موضع سابق : إن الحقيقة متممة للشريعة ، وإنها كمالها وهي البداية إلى الغيب والمدخل ، وكان موسى قد لقي العبد الصالح الذي أوتي العلم اللدني عند مجمع البحرين فعلمه هذا العلم ، فهارون هو مقام العبد الصالح ، وكونه أخا موسى له نكتة ، ذلك أن الأخ من الأب والأم هو الشقيق ، والشقيق من اشتق ، وما يشتق من القلب هو الروح ، والروح هو الموحي المعلم ، وفي عالم التوحيد لا تثبت قدم الموحد ما لم يشد الروح الأمين أزره من باطنه.
٣٣ ـ (كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (٣٣))
[طه : ٣٣]
التسبيج التنزيه ، وهو نتيجة للتوحيد كما سئل البسطامي عن اسم الله الأعظم فقال : دلوني على الأصغر لأقول لكم أين الأعظم ، فكل ما في الوجود دال على اسم الله الأعظم ، وتبوأ الإنسان مكانة الخلافة لأنه يمثل هذا الاسم العظيم ، وتمام التمثيل التنزيه حيث لا يكون ثمة موجود إلا الله.
٣٤ ـ (وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (٣٤))
[طه : ٣٤]
الذكر الإلهي هو نتيجة للتنزيه ، فالعارف العارج يظل يعرج في سموات المعقولات حتى لا يعود يرى إلا الله كما قال الصديق رضي الله عنه : (ما رأيت شيئا إلا رأيت الله قبله) ، وعند ما لا يعود المكاشف يرى إلا الله فإنه لا يذكر إلا الله وهذا هو الذكر الحق.
وقال الشبلي : لا أستريح حتى لا أرى ذاكرا على وجه الأرض ، ومراد الشبلي أنه مادام الذاكر يرى نفسه ومن حوله فهو لم يتحقق من حقيقة الذكر الكامل ، إذ يقتضي هذا الضرب الرفيع من الذكر أن يغيب الذاكر ولا يبقى إلا المذكور ، ولهذا مد الشبلي عينيه إلى أن يرى الناس جميعا موحدين ، رأوا الله ظاهرا في المظاهر ، فغابت المظاهر ولم يبق إلا الظاهر ، ولم يعد ثمة من ذاكر على الحقيقة إلا الله ... وهذا حال عجيب تعيشه الذات التي شقت منها النفس وأهبطها إلى العالم الحسي ، وجعلت فيها خزائن المعقولات مغلقة ، أو كما يقال في