الأخت ما ينبثق في النفس من نور الهداية ومنه نور الضمير ، فيلهم الله النفس التقوى مثلما يلهمها الفجور ، فيعلمها التقوى عن طريق معرفة الفجور ، ولهذا قال أبو العباس المرسي : كل سوء أدب يثمر أدبا فهو أدب ، والنفس في حال التقلب تسمى قلبا ، وتسمى نفسا لوامة ، فمن جهة هي الفجور ، ومن جهة هي التقوى ، والعبد مثل طفل بين يدي أمه يتعلم على يدي الخير والشر.
والأم العودة إلى النفس الكلية ، كما قال سبحانه في موضع آخر : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) [الفجر : ٢٧ ، ٣٠] ، فلقد تم تعليم النفس الجزئية ، فرجعت إلى النفس الكلية محملة بعطايا المعقولات التي تم تفجيرها مثلما تفجر الذرة ، فيكون فرح الأم بعطايا الروح عن طريق العالم البراني عظيما.
وقتل النفس تحقق السالك بمقام الفناء حيث تلتحق النفس الجزئية بأمها الكلية فتفنى ، أي تقتل ، والقتل معنوي ، وسمي بمصطلح الصوفية الفناء ، وقال الإمام السياري : ليس في المشاهدة لذة ، لأن المشاهدة فناء لا لذة فيه ، فالفناء هو الغم الذي يأخذ السالك ، وسمى الله هذا الحال فتنة ، حيث لا يعود للمكاشف حظ أو احتظاظ ، أو لذة ولا التذاذ ، كما قال الإمام السياري أيضا ، وحيث يخرج عن نطاق البشرية وعن حدود الزمان والمكان فلا يبقى له صبح ولا مساء كما قال البسطامي : طلبت ذاتي في الدارين ، فما وجدتها.
ولبث السنين زمن تقلب العارف في مقام الفناء ، ثم ينجيه ربه برحمة منه فيلحقه به ، فإذا العارف مشاهد متحقق من كونه خليفة على الحقيقة ، فلا يعود يبصر من دنياه وحياته الأولى إلا شبحا كان يحيا في الظلال ، وأنه عاش سجين البدن وأسير قوى النفس ، مهموما بالعيش ، مغموما بمؤونته .. فإذا هو بعد الالتحاق بربه كاملا مثل ربه عظيما حيا به ، كان نورا شريفا فتعين ، ثم عاد نورا كما كان ، ولم يعد بدنه له سجنا ، ولم تعد الحياة عليه ثقيلة ، فهو حر خفيف لطيف مسرور بلقاء الله كوجود مطلق ظهر به كوجود مقيد.
والقدر الميقات كما قال سبحانه في موضع آخر : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا) [الأعراف : ١٤٣] ، وقلنا إنه بلوغ الأشد وهو يقارب الأربعين ... هذا من الناحية الفيزيولوجية ... أما القدر الذي ورد في الآية فهو القدر المقدم ، أو كما يقال المقدور ، وهو على الإنسان كتاب مكتوب لا تبديل فيه ولا تقديم ولا تأخير ، فعبد يولد نبيا ، وعبد يولد فرعون ، والحق خالق حر يفعل ما يشاء ، والصوفية يعلمون المشيئة ويخافونها ، ولهذا قال أبو عثمان النيسابوري : من ظن أن نفسه خير من فرعون فما عرف.