أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ،) أي أعطى خلقه حرية التصرف في القوى ، وهذه هي الحرية التي يعيشها الإنسان فيتصرف في أموره ، ويتوجه يمينا ويتوجه شمالا ، ولا يخطر في باله أنه ليس هو ، وأنه ليس حرا ، وأنه عبد ، وأنه آلة للحق ، واختتمت الآية بالقول : (ثُمَّ هَدى ،) أي لا يهتدي إلا من هدى الله ، وهذا الهدى هو التوفيق الذي يتم به إخراج الإنسان من جهنم التضاد والبعد ، وهو الرحمة التي ذكرها سبحانه في كثير من المواضع ، فالإنسان خلق شقيا ، ورد أسفل سافلين لبعده عن الله ، فإذا تغمده الله برحمته أدناه وأدخله في الصالحين.
٥١ ، ٥٢ ـ (قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٥١) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (٥٢))
[طه : ٥١ ، ٥٢]
الحديث عن الشرك المنتشر في الأمم الماضية ، والذي يقع بعلم الله ومشيئته وذلك بقصد التحريك أيضا ، وهذا ما ذكر في الآية الثانية والخمسين ، حيث قال موسى لفرعون عن الأمم المشركة : (عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ) [طه : ال] ، والكتاب ما سبق به القضاء من قبل الفض ، ولهذا قال سبحانه في موضع آخر : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) [التّغابن : ٢].
٥٣ ـ (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (٥٣))
[طه : ٥٣]
الأرض البدن ونفسه المادية الطبيعية ، والسبل استقاء المعلومات عن طريق الانطباعات النفسية عن العالم الخارجي ، وماء السماء علم الغيب المتنزل على ضربين ، الأول كون المعقولات سابقة للمحسوسات ، والثاني فعل التجريد نفسه الذي يقوم به العقل الفعال أي الروح الكلي ، وهو فعل لا تعي سره النفس فتظن أنها هي الفاعلة المجردة بكسر الراء ، وهي المتخيلة الحافظة المفكرة المصورة ، في حين أن الروح الكلي هو القائم بهذه الأعمال ، وهذا ما ميز الإنسان عن الحيوان فسميت ذاته من ثم الذات الناطقة الشريفة. والأزواج أزواج المعقولات ، ولكل معقول زوجه ، ولهذا قال سبحانه مخاطبا نوحا عليهالسلام : (فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) [المؤمنون : ٢٧] ، فما في العالم إلا الأزواج ، ومن الأزواج الذكران والإناث ، ولو لا الأزواج ما كان ثم عالم محسوس وعالم معقول بل ولا حياة أيضا ، ففي عالم الذرة ثبت أن الجسيمات التي تتركب منها نواة الذرة هي سالبة وموجبة ، وأن هناك نيوترينو وأنتي نيوترنيو. وقوله : (نَباتٍ) يعني الإنبات ، والإشارة إلى عالم الطبيعة التي سماها النبي رحما ، وفي الفلسفة ثمة اسم للنفس هو النفس النباتية والتي هي الحياة بجميع أشكالها