ونشاطاتها وخواصها ... ولقد ربط بين النفس النباتية والنفس الحيوانية ، وذلك لأن هذين الاسمين لا يفترقان لدى الحيوان ولدى الإنسان الذي هو الحيوان الناطق ، ولهذا قال صلىاللهعليهوسلم : (كلكم لآدم وآدم من تراب) ، وقال : (أنا أبو الأرواح وآدم أبو البشر) ، فابن آدم سليل التراب ، منه خرج ، وإليه يعود ، وفيه يفنى ، ولا يبقى منه إلا الذات الناطقة الشريفة التي تلحق بربها النور الشريف ، ولهذا كان تعريفنا للنفس بأنها نباتية أو حيوانية مرتبطا بالحياة الأرضية ، فلا نفس نباتية ولا نفس حيوانية تنفك من المادة ، وسبق أن قلنا : إن للظاهر وجهين ، الوجه الظاهر وهو الشكل أو ما يسمى في الفلسفة الامتداد ، والوجه الباطن وهو النفس ، أو الفكر ، ولقد ربطنا ما بين الفكر والنفس باعتبار الفكر نشاطا فيزيولوجيا بحتا آلته الدماغ ، وكونه أيضا نشاطا نفسيا ، أو هو قوة من قوى النفس ، ولهذا عرف الفارابي الفكر الذي سماه عقلا : بأنه قوة من قوى النفس مستعدة لأن تتنزع ما هيات الموجودات كلها صورها دون موادها ، وتلك الصور المنتزعة عن موادها الصائرة صورا في هذه الذات هي المعقولات. فلا فكر بلا دماغ ، ولا نفس بلا فكر ، ولا نفس بلا جسم ، والدورة كاملة متداخلة في بعضها بعضا ، وحركتها لولبية دائمة ، وعلى من أراد النجاة بروحه منها أن يسعى إلى الانفكاك من أسر التعين ليصير إلى اللاتعين الذي هو عالم المطلق والنور الشريف.
٥٤ ـ (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (٥٤))
[طه : ٥٤]
الأكل ما تأخذه المعقولات من المحسوسات ، فلا معقول بلا محسوس يظهره ، ولو لا خلق العالم المادي ما ظهر العالم الروحي وما فيه من كنوز ، والرعي إطعام الحواس الباطنية كالخيال والحافظة ، فهي ما كانت لتمارس عملها أيضا لو لا وجود العالم المحسوس ، فالعالم المحسوس الشاشة التي ظهرت عليها صور العالم المعقول ، ولهذا ختمت الآية بالقول : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى ،) والنهى لب العقل وجوهره لا العقل وحده ، أو هو عقل العقل ، أي الوصول إلى العقل الكلي واكتشاف حقيقته وسره وفعله ، قال جلال الدين الرومي : الفكر شعاع الجوهر ، وقال : أيها المتعشق لعقله ، إعلم إن نور حسك قبس مستعاد من نور العقل الكلي ، إنه ذهب أشرق فوق نحاسك.
٥٥ ـ (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (٥٥))
[طه : ٥٥]
سبق أن تحدثنا عن خلق النفس النباتية من المادة ، والعودة عودة النفس الترابية إلى التراب ، ولهذا قلنا : إن النجاة هي الوصول إلى عالم الروح المطلق ، وهذا هو الخروج الثاني الذي أشارت إليه الآية ، قال المسيح عليهالسلام : (بحق أقول لكم لا يلج ملكوت السموات