نكتة ، ذلك أن الوسوسة تمارس فعلها بواسطة قوى الأسماء نفسها ، والأسماء لله ، ولهذا كان القلب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء ، والخلاف المقصود خلاف الأسماء ، فلقد فسر الخلاف في الآية بأن تقطع اليد اليمنى مع الرجل اليسرى ، فإذا كانت اليد اليمنى إشارة إلى اسم من أسماء الجمال ، فالرجل اليسرى تكون اسما من أسماء الجلال ... أي أن الوسوسة تحاول ضرب الأسماء بالأسماء ليكون لها الظهور على القلب والظفر به.
وقوله : (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ،) إشارة إلى الكليات المعقولات ... إذ سبق أن قلنا إن الرطب التي أكلت منها مريم النفس الكلية هي المعقولات الشريفة نفسها ، فالصلب في جذوع النخل محاولة حبس القلب في سجن المعقولات نفسها ، وهذا لا يريده الله للمؤمن التقي الذي دعاه ليكون أهلا لأن يسع الله نفسه كما ورد في الحديث القدسي.
فكل اسم تعين ، لأن العلة تطلب المعلول ، وكل معلول يطلب علته ، ولهذا ترى كثيرا من المؤمنين العابدين الذاكرين مصابين بداء العجب ودعوى الأنية ... ولهذا حذرت الصوفية من الوقوف عند حدود الأسماء دون تجاوزها إلى من له الأسماء أي الله سبحانه ، فإذا وقفت عند حدود صلاتك وصومك وزكاتك وتباهيت بأدائك الفرائض والنوافل فأنت قد تكون من المصلوبين في جذوع النخل ولا تعلم ، قال الإمام الواسطي : التقوى أن يتقي العبد من تقواه ، يعني من رؤية تقواه وقال الإمام الشاذلي : عابد عبد الله في جزيرة مائة عام ، فقيل له : (أدخل الجنة برحمتي) ، قال : بل بعملي ، وقال أيضا : الجناية برؤية الطاعات أكثر من الجناية بالمعاصي ، وقال الإمام الداراني : إنما يعجب بعمله القدرية الذين يزعمون أنهم يعملون أعمالهم ، أما الذي يرى أنه مستعمل فبأي شيء يعجب؟ وقال المزين : العجب في العبد مقت من الله عزوجل ، وهو يؤدي إلى مقت الأبد.
فالمطلوب الخلاص من دعوى الفعل ، ثم الصفة ، ثم الاسم ، ثم الذات وكلها تعينات ، إذ لو لا التعينات ما كان ثم اسم ولا صفة ولا فعل ، ولهذا نادت فلاسفة الصوفية وشعراؤهم باللاتعين أي الهرب من سجن التعين إلى آفاق المطلق واللامتناهي واللامحدود.
ولهذا كان جواب السحرة في الآية الثانية والسبعين : (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ ،) فكل بلاء يصيب المؤمن يؤدي إلى تخليص العبد من أسر الحياة الدنيا ، أو الخلاص من التعين كما يقال في الفلسفة.
٧٣ ، ٧٦ ـ (إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (٧٣) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (٧٤) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ