كل ما تقع عليه العين هو صورة كما أسلفنا القول ، والله سبحانه هو المصور.
وقوله : (كَيْفَ يَشاءُ) يعني علاقة المشيئة بما هو موجود ، فلا مشيئة لموجود إلا بالمشيئة الإلهية ظاهرا وباطنا ، وقرنت الآية بقوله سبحانه : (هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ،) والعزة المنعة وكون الأشياء في القبضة لا تغلب بكسر اللام ولا تغلب بفتح اللام ، وأما الحكمة فلأن كل مخلوق خلق لقصد وأداء دور معين وتحقيق هدف محدد ، ولهذا قال الإمام الغزالي : ليس في الإمكان أبدع مما كان.
٧ ـ (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧))
[آل عمران : ٧]
هذه الآية مفتاح القرآن ، ومن علم مدخلها ومخرجها ، أي فهمها ، علم مفاتيحها ، ذلك لأنه يفرق عندئذ بين الآيات المحكمات والآيات المتشابهات كما فعل الإمام الغزالي في كتابه «جواهر القرآن» ، لأن الإمام عند ما ذاق وكشف علم الأمر داخله وخارجه.
ولحكمة جعل سبحانه من القرآن الآيات المحكمات والمتشابهات ، فالبداية عروج من أسفل سافلين إلى عليين ، والمعراج سلم ذو درجات ، ولكل درجة يقف عليها ، ولهذا اقتضت الحكمة أن تخاطب النفس في رحلتها المعراجية حسب الحال الذي تكون فيه ، فهي حرة المشيئة ، إذا كانت في التقلب والتلوين ، وهي غير حرة إن أتاها اليقين ، وثمة درجات للعبودة تبدأ من خطابه سبحانه الناس بقوله : (يا عِبادِيَ) [العنكبوت : ٥٦] ، ثم ينتقل إلى التفريد فيخاطب المفردين قائلا : (يا عبدي) ، وهذه النقلة من الحرية إلى العبودية تقتضي أن يكون في كتاب الله ما يوافق الحالين ويؤيد الوجهتين ، ولهذا وجد الناس ، عارجين كانوا أم هابطين ، في كتاب الله ما يؤيدهم في جميع الأحوال ، ولو شاء الله أن ينزل مما عنده من أم الكتاب لفعل ، فظلت أعناق العباد له خاضعين ، ولكنه شاء أن يكون خلاف ليميز الخبيث من الطيب ، ولتفعل الأسماء فعلها ، وكذلك الصفات.
والوصول إلى اليقين هو بدء تعليم الله عبده العلم اللدني الذي هو علم التوحيد ، وجوهره معرفة الآيات المحكمات ، وما رفعت الصوفية القواعد من بيت علومهم إلا على أساس الإحاطة بعلم التأويل ، ولهذا قال سبحانه في هؤلاء إنهم راسخون في العلم ، يقولون إن كل ما جاء في كتاب الله من محكم ومتشابه هو من عند الله لاقتضاء الحكمة والتعليم.