بعد انفصالها عنها حينا من الدهر للتعلم ، فالأنا الكلية اقتطعت جزءا منها وجعلته في المادة لتجعل ما هو لديها بالقوة بالفعل ، ولتجعل المرتق المجمل من علمها فتقا مفصلا في العالم ، فالنفس تعلم نفسها بنفسها عن طريق النفوس الصغيرة على مسرح الوجود.
والمغفرة تقبل النفس العائدة إلى أحضان الألوهية ، وجزاء هذه العودة جنة القرب ، والمكاشف بعد اطلاعه على السر واجد نفسه في جنة النفس الكلية ، وفيها المعقولات جميعا دانية القطوف يأكل منها ما يشاء ، وللربط بين السموات والأرض اللواتي عرضها عرض الجنة لطيفة ، فكما قلنا السماء سماء الروح ، والأرض أرض البدن والمادة.
١٣٤ ـ (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤))
[آل عمران : ١٣٤]
الإنفاق في السراء والضراء الإنفاق مما تجمع في حصالة العلوم من جهة الروح ومن جهة المحسوسات ، والمدد الروحاني العلمي هو بمثابة السراء لأنه لا يأتي عن طلب بل هو مدد وهبة ... أما ما يأتي من جهة المحسوسات فهو الكدح الذي كتب على آدم بعد أن أهبط من جنة المعقولات ، وفرضت عليه كلمات هي معقولات أيضا ، ولكن الوصول إلى تجريدها مرتبط بفلق أرض المحسوسات ذاتها ، وفي هذا الوصول تعب ونصب ، ومن كلا المددين لا بد من الإنفاق ، أي الخروج عن دعوى ملكية هذا العلم وإعادته إلى المالك الحقيقي ، لأن المكاشف كوشف بأن ليس للإنسان شيء مما يملكه ويحصله ، وأكدت الفلسفات القديمة كاليونانية والفلسفة الإسلامية أن إخراج المعقولات الموجودة بالقوة في عالم الحس إلى معقولات بالفعل أمر منوط بالعقل الفعال لا بالإنسان ولهذا كان أول ما قاله جبريل صوت العقل الفعال للنبي لما تمثل له : (اقْرَأْ ...) ثم أتبع ذلك بقوله : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) [العلق : ١ ، ٥] أما كظم الغيظ فضروري لتبلغ قوى الإنسان كمالها ، ومنها القوة الغضبية التي عرفت بأنها دفع ما يكره ، ولقد سلح الإنسان بهذه القوة حفاظا على حياته واستمرارا لهذه الحياة ، وفي حال السلوك والمجاهدة لا بد من حد هذه القوة ، بحدود الأخلاق ، إذ أن لها طغيانا يؤذي القلب ، ويحول الإنسان إلى شر من الوحوش ، سئل الحكيم اليوناني ديوجانيس : كم عبدا لك؟ فأجاب : بعدد أربابكم ، وعني الشهوة والغضب ، وقال جلال الدين الرومي : أنا جبل من الحلم والصبر.
والعفو عن الناس من ضرورات السلوك ومتطلباته أيضا ، إذ ما دام الأمر مرتبطا بالكشف ،