والكشف كشف عالم المعاني بيضا وسودا ، وكون هذا العالم هو القبضة وهو الجبروت فالنتيجة العفو ، وقال سبحانه مخاطبا رسوله : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) [الأعراف : ١٩٩] ، وهذه خلاصة الأخلاق الإسلامية التي أضافت بقوله تعالى : (وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [لقمان : ١٧] ففرضت القصاص حفاظا على الحدود أولا وعلى سلامة المجتمع ثانيا أما ما وراء ذلك فالله أوصى المؤمنين بالعفو بل أمر ، وكان النبي قدوة لما أتته هند ابنة أبي سفيان فقال لها : أهند آكلة الكبود ، إشارة إلى أنها أكلت كبد حمزة عم الرسول ، فقالت : أنبي وحقود؟ فتركها وعفا عنها.
فالأخلاق النبوية تقتضي العفو ، والعفو عند المقدرة ، ويقال حلم عمن جهل عليه ، فلا بد من جاهل سفيه يجابه الحليم ليفتق لديه صفة الحلم كما فعلت هند بالنبي صلىاللهعليهوسلم.
ولقد ختمت الآية بالقول : (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) فخص الحب بمقام الإحسان ، وهو مقام فوق الإسلام والإيمان ، وعرفه عليهالسلام : (بأن تعبد الله كأنك تراه) ، والإحسان المدخل إلى علوم المكاشفات ، وعليه سبعة أقفال في علوم التصوف.
١٣٥ ـ (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥))
[آل عمران : ١٣٥]
ظلم النفس عدم ردها إلى بارئها ومولاها ، والإنسان منذ وعى أدرك أن له نفسا فادعاها له علما أنه لا يعلم أصلها وفصلها ومستقرها ومستودعها ، ولا من أين جاءت ، ولا إلى أين تروح ، ولا كيف تفعل بالجسم وفي الجسم ، فهو أكبر جهول بنفسه من بين المخلوقات ، لأنه ما من مخلوق يقول أنا وأنا إلا الإنسان.
وذكر الله الطريق إلى معرفة الله خالق النفس ومالكها ، ولهذا ورد ذكر الذاكرين كثيرا في كتاب الله ، وعدت الصوفية الذكر المدخل إلى المعرفة ، ولقد ربطت الآية بين ذكر الله والاستغفار للنفس المخلوقة على صورة الرحمن ، وهي صورة إلهية ، وهي النفس الإلهي ، وهي نفخ الروح الإلهي ... ثم يظل الذاكر في سورة الذكر حتى يغيب الذاكر في المذكور أولا ، ثم يغيب المذكور في الذاكر ثانيا وهو مقام بلغه الحلاج وقال فيه شعرا ، ثم يغيب المذكور في الذاكر والمذكور ثالثا ولا يبقى إلا واحد أحد فرد صمد كان ولا شيء معه ، وهو الآن على ما كان.
إنها هوية صرفة. تتبدى مخلوقا ، ثم تغيب فتكون خالقا ، وهي في مدخلها ومخرجها ثابتة ، أزلية نورية حقانية هي الأول والآخر والظاهر والباطن ، فسبحان من استعان بصورة على إظهار صورته ، وردة ذات سناء وسنا وبهاء أزلا وستبقى أبدا.