بل حقيقة الأمر : أن ما نشاهد في الاجتماعات الحاضرة من الملل والامم الحية من آثار النبوة والدين ، وقد ملكوها بالوراثة أو التقليد ، فإِن الدين منذ ظهر بين هذا النوع حملته وانتحلت به أُمم وجماعات هامة ، وهو الداعي الوحيد الذي يدعو الى الايمان ، والاخلاق الفاضلة والعدل والصلاح ، فالموجود من الخصائل الحميدة بين الناس اليوم وإِن كان قليلاً بقايا من آثاره ونتائجه ، فإِن التدابير العامة في الاجتماعات المتكونة ثلاثة لا رابع لها : أحدها تدبير الاستبداد وهو يدعو الى الرقية في جميع الشؤون الانسانية ، وثانيها القوانين المدنية وهي تجري وتحكم في الافعال فحسب ، وتدعو الى الحرية فيما وراء ذلك من الاخلاق وغيرها ، وثالثها الدين وهو يحكم في الاعتقادات والاخلاق والافعال جميعاً ويدعو الى إِصلاح الجميع .
فلو كان في الدنيا خير مرجو أو سعادة لوجب أن ينسب إِلى الدين وتربيته .
ويشهد بذلك ما نشاهده من أمر الامم التي بنت اجتماعها على كمال الطبيعة ، وأهملت أمر الدين والأخلاق ، فإِنهم لم يلبثوا دون أن افتقدوا الصلاح والرحمة والمحبة وصفاء القلب وسائر الفضائل الخلقية والفطرية مع وجود أصل الفطرة فيهم ، ولو كانت أصل الفطرة كافيه ، ولم تكن هذه الصفات بين البشر من البقايا الموروثة من الدين لما افتقدوا شيئاً من ذلك .
على أن التاريخ أصدق شاهد على الاقتباسات التي عملتها الامم المسيحية بعد الحروب الصليبية ، فاقتبسوا مهمات النكات من القوانين العامة الاسلامية فتقلدوها وتقدموا بها ، والحال أن المسلمين اتخذوها ورائهم ظهرياً ، فتأخر هؤلاء وتقدم أُولئك ، والكلام طويل الذيل .
وبالجملة الأصلان المذكوران ، أعني السراية والوراثة ، وهما التقليد الغريزي في الانسان والتحفظ على السيرة المألوفة يوجبان نفوذ الروح الديني في الاجتماعات كما يوجبان في غيره ذلك وهو تأثير فعلي .
فان قلت : فعلى هذا فما فائدة الفطرة فإِنها لا تغني طائلاً وإِنما أمر السعادة بيد النبوة ؟ وما فائدة بناء التشريع على أساس الفطرة على ما تدعيه النبوة .
قلت
: ما قدمناه في بيان ما للفطرة من
الارتباط بسعادة الانسان وكماله يكفي في حل هذه الشبهة ، فإِن السعادة والكمال الذي تجلبه النبوة الى الانسان ليس أمراً